عنوان الفتوى : وضع التاريخ الهجري ليس من الابتداع في الدين
هل للصحابة الحق في الابتداع في الدين كوضع التاريخ الهجري؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فوضع التاريخ الهجري ليس من باب الابتداع في الدين أصلًا، وإنما هو من باب العمل بالمصالح المرسلة، وقد سبق لنا بيان المراد بالمصالح المرسلة في الفتويين: 32024، 32128, وأنها لا تشمل العبادات في الفتوى رقم: 71311.
وقد عقد الشاطبي في الاعتصام بابًا في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان، قال في أوله: هذا الباب يُضطر إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة, وما ليس ببدعة، فإن كثيرًا من الناس عدوا أكثر المصالح المرسلة بدعًا، ونسبوها إلى الصحابة والتابعين، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات. اهـ.
ولإيضاح الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة، ننقل كلام الدكتور حسين الجيزاني في كتاب قواعد معرفة البدع. حيث قال في وجوه اجتماع البدعة والمصلحة المرسلة:
1ـ أن كلًا من البدعة والمصلحة المرسلة مما لم يعهد وقوعه في عصر النبوة.
2ـ أن كلًا من البدعة - في الغالب - والمصلحة المرسلة خال عن الدليل الخاص المعين، إذ الأدلة العامة المطلقة هي غاية ما يمكن الاستدلال به فيهما. وقال في وجوه الافتراق بين البدعة والمصلحة المرسلة:
1ـ تنفرد البدعة في أنها لا تكون إلا في الأمور التعبدية, وما يلتحق بها من أمور الدين، بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل معناه، وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عُرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية.
2ـ وتنفرد البدعة بكونها مقصودة بالقصد الأول لدى أصحابها؛ فهم - في الغالب - يتقربون إلى الله بفعلها ... بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإنها مقصودة بالقصد الثاني دون الأول، فهي تدخل تحت باب الوسائل؛ لأنها إنما شرعت لأجل التوسل بها إلى تحقيق مقصد من مقاصد الشريعة، ويدل على ذلك أن هذه المصلحة يسقط اعتبارها والالتفات إليها شرعًا متى عورضت بمفسدة أربى منها، وحينئذٍ فمن غير الممكن إحداث البدع من جهة المصالح المرسلة.
3ـ وتنفرد البدعة بأنها تؤول إلى التشديد على المكلفين وزيادة الحرج عليهم، بخلاف المصلحة المرسلة فإنها تعود بالتخفيف على المكلفين ,ورفع الحرج عنهم، أو إلى حفظ أمر ضروري لهم.
4ـ وتنفرد البدعة بكونها مناقضة لمقاصد الشريعة هادمة لها، بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإنها - لكي تعتبر شرعًا - لا بد أن تندرج تحت مقاصد الشريعة، وأن تكون خادمة لها، وإلا لم تعتبر.
5ـ وتنفرد المصلحة المرسلة بأن عدم وقوعها في عصر النبوة إنما كان لأجل انتفاء المقتضي لفعلها، أو أن المقتضي لفعلها قائم لكن وجد مانع يمنع منه، بخلاف البدعة فإن عدم وقوعها في عهد النبوة كان مع قيام المقتضي لفعلها وتوفر الداعي وانتفاء المانع. اهـ.
وأمر آخر ينبغي التنبيه عليه، وهو أن إجماع الصحابة وعمل الخلفاء الراشدين لا يمكن أن يدخله ابتداع في الدين، بل لفظ السنة يتناوله إجمالًا، قال الشاطبي: يطلق أيضًا لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة - رضي الله عنهم - وُجِد ذلك في الكتاب والسنة أو لم يوجد، لكونه اتباعًا لسنة ثبتت عندهم لم تُنْقل إلينا، أو اجتهادًا مجتمعًا عليه منهم أو من خلفائهم، فإن إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم راجع أيضًا إلى حقيقة الإجماع، من جهة حَمْل الناس عليه حسبما اقتضاه النظر المصلحي عندهم، فيدخل تحت هذا الإطلاق المصالح المرسلة والاستحسان، كما فعلوا في حَدّ الخمر، وتضمين الصناع، وجمع المصحف، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة، وتدوين الدواوين، وما أشبه ذلك، ويدل على هذا الإطلاق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين» اهـ. وقد سبق لنا بيان أن التأريخ بالهجرة النبوية اجتمع عليه الصحابة الكرام، فراجع الفتوى رقم: 32818.
والله أعلم.