عنوان الفتوى : مناقشة حول الخضاب (صبغ الشعر) بالسواد
أتمني منكم أن تتتقبلوا حديثي هذا بانشراح في الصدر ولا تنزعجوا إذا كنت سأدخل معكم في نوع من النقاش للتوضيح، وأنتم أهل ثقة وربما يصدر منكم شيء عليه بعض الملاحظات، وهذا شيء طبيعي، لأنكم بشر تخطئون وتصيبون، هذا بالإضافة إلى كمية الأسئلة الواردة إليكم ـ كان الله في عونكم ـ وأنوه إلى أنني لست بعالم ولا مجتهد، لكنني مطلع نوعاً ما: استغربت كثيراً حينما قرأت الفتوى رقم: 24124، وبعض ما فيها: وعلى هذا، فمن روي عنه من الصحابة أنه خضب بالسواد، فإما أن يكون الوهم من الراوي، فقد رآه خاضباً بخضاب شديد الحمرة، فظنه سواداً، وإما أن يكون الصحابي لم يبلغه النهي ـ وطبقاً لما أوردته: 1ـ أعطني رواية صحيحة ومن حاكاها تدل على أن من روى الخضاب بالسواد رآه خاضباً شديد الحمرة فظنه أسود. 2ـ أعطني رواية صحيحة يكون الصحابي فيها لم يبلغه النهي. ملاحظة: أرجو ذكر القائلين، والأكثر من ذلك أن تكون رواية صحيحة، هذا بالنسبة لما ورد في هذه الفتوى. أولا: تعرفون أن من خضب بالسواد هم الصحابة والتابعون وأئمة السلف، مثل: عثمان بن عفان رضي الله عنه، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وعلي بن عبد الله بن عباس، والمغيرة بن شعبة، وجرير بن عبد الله، وعمرو بن العاص، والحسن والحسين وغيرهم ـ رضي الله عنهم جميعاًـ فهل تعتقدون أن الرواي قد أخطأ في كل هؤلاء الذين ذكرتهم والذين لم أذكرهم؟ وأن الصحابة جميعهم لم يبلغهم النهي، وبالأخص التابعون مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعلي بن عبد الله بن عباس، وغيرهم، وإذا لم يصح خبر بعض من صبغ مثل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه لضعف السند إليه في الخضاب بالسواد، وعقبة بن عامر رضي الله عنه لضعف السند إليه في الخضاب بالسواد، فمن الأولى أن تقولوا ذلك، بدل قولكم: فإما أن يكون الوهم من الراوي، وإما أن يكون الصحابي لم يبلغه النهي ـ فهذا فيه عدم ثقة في الرواي، بل اتهام له في أمر اجتمع عليه الفقهاء واستنبطوه ـ بل من الأولى أيضاً أن يقول الأئمة مثل قولكم أو الأصوليون ـ فمع احترامي لكم واحترامي لكل علمائنا، فهم أعلم أهل الأرض، فأنتم بهذه الطريقة تشككون في استنباط الفقهاء. ثانياً: حديث أبي هريره في النهي عن الخضاب بالسواد ضعيف للغاية، وحديث ابن عباس المشهور في النهي عن الخضاب بالسواد ضعيف للغاية أيضاً بغض النظر عن اختلافهم في تفسير الحديث، ولا أريد الإيراد بأكثر من ذلك، لأن هناك من الأحاديث ما به علة وضعف، صريح في المعنى غير صحيح في المبني... إلخ. ثالثاً: مذهب جمهور الفقهاء الصبغ بالسواد وقول بعض الحنفية، الصبغ بدون كراهة، قال علي القاري ـ رحمه الله ـ في جَمْع الوسائل في شرح الشمائل: ذهب أكثر العلماء إلى كراهة الخضاب بالسواد، وهو ما اختاره ابن تيمية وابن القيم، لم ينقل عن الصحابة أيضًا أنهم كرهوه أو منعوه، ولو نقل لكان حجة للعلماء، بل نقل أنهم صبغوا بالسواد ـ وأنتم أو من على فكركم كذبتم الخبر وكذبتم الراوي، والغريب عندما رجحتم القول بالحرمة رجحتم وفق الحديث ووفق قول النووي فقط، وإنما قولكم بالحرمة هو خروجكم من الخلاف ليس أكثر بغض النظر عن الذي منعه من العلماء المعاصرين أهل العلم والثقة، مثل: الألباني، وابن باز، وابن عثيمين وبعض الأصوليين كالنووي ـ عليهم رحمة الله ـ فالقول بالحرمة قول فيه ضعف. رابعاً: فمن الممكن أن تعرضوا كل الأقوال في ذلك وتقولوا للمستفتي نحن نختار القول بالحرمة ونصوبه، لكن لا تمنعوا المستفتي من أمر اجتمع عليه أعلام من أئمة الأرض، فهو مخير بين أن يأخذ بفتواكم أو فتوى غيركم، وبالأخص إذا كان قولا قويا وسديدا. خامساً: أجزتم الصبغ بالسواد لغير الشيب في الفتوي رقم: 46307، ثم منعتم ذلك في الفتوى رقم: 37876، مع أن النص: غيروا هذا البياض ـ وفي رواية أخرى: وجنبوه السواد ـ فالأمر جاء في النهي عن البياض ـ والله أعلم ـ وهو استحباب تجنب السواد وكراهة تجنب السواد.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنشكرك على الاتصال بنا وسعيك في المناصحة، وأما عن مسألة الخضاب: فقد ذكرنا في كثير من الفتاوى أنه اختلف أهل العلم في حكم صبغ الشعر بالسواد والراجح لدينا أنه محرم، لعموم الأدلة الواردة في ذلك, فقد أخرج مسلم في صحيحه عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: أتي بأبي قحافة ـ والد أبي بكر رضي الله عنهما ـ يوم فتح مكة ورأسه كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: غيروا هذا واجتنبوا السواد.
ولما أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود، وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس مرفوعاً: يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة. وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
والأصل في النهي أن يحمل على التحريم حتى يوجد صارف يصرفه إلى الكراهة، ولا صارف هنا، ينضاف إلى ذلك أن الوعيد المذكور في الحديث الأخير لا يمكن أن يترتب إلا على فعل محرم، أو ترك واجب ـ كما هو مقرر عند أهل الأصول ـ وقد سبقنا لهذا الترجيح جمع من أهل العلم لنا فيهم أسوة، فقد قال النووي ـ رحمه الله ـ في المجموع: والصحيح، بل الصواب أنه حرام.
ثم قال: ودليل تحريمه حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: أتي بأبي قحافة ـ والد أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثَّغَامَةِ بياضاً، فقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: غيروا هذا واجتنبوا السواد ـ رَوَاهُ مُسْلِمٌ في صحيحه، والثغامة: نبات له ثمر أبيض ـ وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونْ في آخِرِ الزّمَانِ بالسّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ لاَ يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنّةِ ـ رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، ولا فرق في المنع من الخضاب بالسواد بين الرجل والمرأة. اهـ.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء: تغيير الشعر بغير السواد لا حرج فيه، وكذلك استعمال مواد لتنعيم الشعر المجعد والحكم للشباب والشيوخ في ذلك سواء، إذا انتفت المضرة وكانت المادة طاهرة مباحة، أما التغيير بالسواد الخالص: فلا يجوز للرجال والنساء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: غيروا هذا الشيب واجتنبوا السواد ـ رواه مسلم. اهـ.
وأما عما جاء في الفتوى السابقة: فإنه جاء فيها الاحتمالات العقلية التي يمكن أن تحصل للصحابة، فإنه لا يعقل عنهم تعمد خلاف حديث بلغهم، وإنما يحمل ما حصل أنه لم يبلغ أحدهم الحديث ونحو ذلك من الأعذار, ومثل هذا ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شأن الأئمة، فقد قال في رسالته المعروفة برفع الملام عن الأئمة الأعلام: وليعلم أنه ليس لأحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً أن يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلابد له من عذر في تركه، وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة. انتهى.
ثم إن هؤلاء الصحابة الذين أشرت إليهم لو ثبت عنهم الخضاب بالسواد، فلا يكون ذلك سببا للعدول عما صح في الحديث من النهي عنه، وقد قال الشيخ الألباني في تمام المنة: وأما قوله: وخضب جماعة منهم بالسواد ـ قلت: إن ثبت هذا عنهم فلا حجة في ذلك، لأنه خلاف السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم فعلا وقولا، وقد قال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول.. الآية، ومن الثابت عن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر الصبغ بالحناء والكتم ـ كما تقدم ـ فالأخذ به هو الواجب لموافقته للسنة دون فعل من خالفهما من الصحابة الذين أشار إليهم المؤلف، ولا سيما وفي ثبوت ذلك عن بعضهم نظر ـ كما تقدم عن ابن القيم رحمه الله تعالى ـ ولذلك، قال النووي في المجموع: 1ـ 294ـ اتفقوا على ذم خضاب الرأس أو اللحية بالسواد، وظاهر عبارات أصحابنا أنه مكروه كراهة تنزيه، والصحيح ـ بل الصواب ـ أنه حرام، وممن صرح بتحريمه صاحب الحاوي، قال النووي: ودليل تحريمه حديث جابر.. ثم ذكر حديثه الآتي في الكتاب بلفظ: وجنبوه السواد....
ثم أفاض ـ رحمه الله ـ في الموضوع وذكر بعض الأحاديث في النهي عن السواد، ثم قال: قلت: فهذه الأحاديث من وقف عليها لا يتردد في القطع بحرمة الخضاب بالسواد على كل أحد، وهو قول جماعة من أهل العلم ـ كما تقدم عن ابن القيم ـ وقال: إنه هو الصواب بلا ريب. اهـ.
وراجع للمزيد في الموضوع الفتاوى التالية أرقامها: 11528، 16141، 35687، 24124.
والله أعلم.