عنوان الفتوى : اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ إنما هو لفرح الرب تعالى ، ولا نقيصة في ذلك
هناك حديث ذو رقم : (3803) في صحيح البخاري مجلد الخامس، كتاب " مناقب الأنصار " يقول : " اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ" وعرش الله هو ما استوى عليه سبحانه وتعالي ، استواء يليق به ، كيف إذا يمكن أن يهز موت مخلوق العرش الذي يمثل جلال الله وقدرته المطلقة ، وهو الذي قدّر الموت على الخلق . ألا يمثل هذا نقيصة للذات العلية ؟
الحمد لله
أولا :
روى البخاري (3803) ، ومسلم (2466) عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( اهْتَزَّ العَرْشُ لِمَوْتِ
سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ) .
قال الذهبي رحمه الله :
" هذا متواتر ؛ أشهد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله " .
انتهى من "العلو للعلي الغفار" (ص 89) .
ورواه تمام في " فوائده " (16) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ
سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، مِنْ فَرَحِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ )
وجوّد إسناده الألباني في "الصحيحة" (1288) .
وفي " السنة " ، لعبد الله بن الإمام أحمد (1058) : " عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "
لَقَدِ اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ جَلَّ وَعَزَّ بِجِنَازَةِ سَعْدٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ؛ فَفَسَّرَهُ الْحَسَنُ: فَرَحًا بروحهُ " .
ثانيا :
يجب إمرار أحاديث الصفات كما جاءت ، وكذا ما يتعلق بها من أمور الغيب ؛ فروى الآجري
في "الشريعة" (3/ 1146) عن " الْوَلِيد بْن مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ
الْأَوْزَاعِيَّ , وَالثَّوْرِيَّ , وَمَالِكَ بْنَ أَنَسٍ , وَاللَّيْثَ بْنَ
سَعْدٍ: عَنِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الصِّفَاتُ؟ فَكُلُّهُمْ قَالَ: "
أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا تَفْسِيرٍ " وفي رواية : " أَمِرُّوهَا كَمَا
جَاءَتْ بِلَا كَيْفِيَّةٍ " . رواه البيهقي في "الاعتقاد" (ص/ 118) .
وقد تقدم في جواب السؤال رقم : (138920) ، (178915) بيان أن عقيدة أهل السنة والجماعة في صفات الرب تعالى أنهم يثبتونها ، ويثبتون معانيها التي تدلُّ عليها على حقيقتها ووضعها اللغوي ، ويفوضون العلم بالكيفيات والماهيات ، مع اعتقاد أنها لا يُفهم منها تشبيه الرب أو شيء من صفاته بالمخلوقين .
فنؤمن بأن الرحمن على العرش
استوى ، ونؤمن بأن العرش اهتز حقيقة لموت سعد بن معاذ رضي الله عنه ، وقد ورد في
بعض الأثر : أن ذلك من فرح الرب تعالى ، على ما سبق ، ولا يقال : كيف استوى الرحمن
على العرش ؟ كما لا يقال : كيف اهتز العرش لموت سعد ؟ وإنما نُمرّ ذلك ونؤمن به بلا
كيف ، ولا تأويل ، ولا تشبيه ولا تمثيل .
قال الذهبي رحمه الله :
" وَالعَرْشُ خَلْقٌ لِلِّهِ مُسَخَّرٌ ، إِذَا شَاءَ أَنْ يَهْتَزَّ اهْتَزَّ
بِمَشِيْئَةِ اللهِ ، وَجَعَلَ فِيْهِ شُعُوْراً لِحُبِّ سَعْدٍ ، كَمَا جَعَلَ
تَعَالَى شُعُوْراً فِي جَبَلِ أُحُدٍ بِحُبِّهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَالَى : ( يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ) سَبَأ/ 10
، وَقَالَ : ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ ) الإِسْرَاءُ/
44 ، ثُمَّ عَمَّمَ فَقَالَ : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )
الإسراء/ 44 ، وَهَذَا حَقٌّ ، وَفِي صَحِيْحِ البُخَارِيِّ قَوْلُ ابْنِ
مَسْعُوْدٍ: " كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيْحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ " وَهَذَا
بَابٌ وَاسِعٌ سَبِيْلُهُ الإِيْمَانُ " انتهى من "سير أعلام النبلاء" (3/ 183-184)
.
وقال البغوي رحمه الله :
" وَالأَوْلَى إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلامُ: ( أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ) ، وَلا يُنْكَرُ اهْتِزَازُ
مَا لَا رَوْحَ فِيهِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ ، كَمَا اهْتَزَّ أُحُدٌ
وَعَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ،
وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَكَمَا اضْطَرَبَتِ الأُسْطُوَانَةُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ "
انتهى من "شرح السنة" (14/ 180-181) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
" وَمَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اسْتِبْشَارُ حَمَلَةِ
الْعَرْشِ وَفَرَحُهُمْ ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى مَا قَالَ ... مَعَ
أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ وَلَفْظَهُ يَنْفِي هَذَا الِاحْتِمَالَ " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (6/ 554) .
ثالثا :
ليس في اهتزاز العرش لموت مخلوق نقيصة للرب سبحانه ، وأي نقيصة في ذلك ؟ وسواء
قدرنا أن الاهتزاز إنما كان من فرح العرش نفسه بمقدم روح سعد ، رضي الله عنه ،
واستعظامه لذلك ، على ما مر في كلام بعض أهل العلم ، أو كان من فرح الرحمن جل جلاله
ومحبته للقاء عبده سعد بن معاذ ، رضي الله عنه ، كما في الحديث : ( مَنْ أَحَبَّ
لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ
اللَّهُ لِقَاءَهُ )
رواه البخاري (6507) ومسلم (2683) .
فأي نقيصة تلحق العرش بذلك ،
فضلا عن أن ينسب منه نقص لرب العرش العظيم ، جل جلاله ؟!!
إن الأصل الذي ينبغي أن نبني عليه كلامنا : هو صحة الحديث من عدمه ، وقد سبق بيان
ثبوت الحديث من غير أدنى شك ، وأنه متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم
ذكرنا كلام أهل العلم في توجيهه وبيانه .
واهتزاز العرش ، وأطيط
السماء ، ونحو ذلك : ليس من صفة الرحمن جل جلاله ، كما نبهنا ، وإنما هو من صفة
العرش المخلوق .
قال الذهبي رحمه الله :
" وَلَيْسَ لِلأَطِيطِ مَدْخَلٌ فِي الصِّفَاتِ أَبَدًا ؛ بَلْ هُوَ كَاهْتِزَازِ
الْعَرْشِ لِمَوْتِ سَعْدٍ ، وَكَتَفَطُّرِ السَّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ،
وَنَحْو ذَلِك " انتهى من "العلو" (107) .
يراجع للفائدة جواب السؤال رقم : (128724) .
والله تعالى أعلم .