عنوان الفتوى : المسح على الجوربين ثابت بالنص وفعل الصحابة
شيخنا الفاضل، لا شك أنك تعلم أن رخصة المسح على الخفين أتت نتيجة لضرورة خلع الخف المصنوع من الجلد آنذاك، ولم يرد في أحاديث المسح إلا الخفين، ولا يوجد المسح على الجوربين آنذاك، إلا أخيرا هناك جورب من الداخل قماش وجلد من الخارج، واختلف فيه المالكية، وأقروا المسح عليه، أما المسح على الجورب المعروف اليوم بسهولة ارتدائه وخلعه، فلا يوجد نص ينطبق عليه، وما إضافته للمسح إلا قياس فقط.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكرته من أن المسح على الجوربين المتخذين من غير الجلد كالصوف ونحوه، لم يرد في حديث، غير مسلم؛ فعن المغيرة بن شعبة قال: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين، والنعلين. رواه الخمسة إلا النسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني. وفعله جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وهم أعلم الناس بسنته صلى الله عليه وسلم، وما يشرع الترخص فيه وما لا يشرع.
قال في المغني: وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَيُرْوَى إبَاحَةُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عَنْ تِسْعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالْبَرَاءِ، وَبِلَالٍ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. وَبِهِ قَالَ: عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ، وَمُحَمَّدٌ. انتهى.
فإذا كان الحديث، وفعل هؤلاء الصحابة، قد دل على مشروعية المسح على الجوربين، لم يصح أن يقال بعد هذا إن الحجة هي القياس فقط؛ ثم إن القياس في هذا ظاهر عند من رآه من أهل العلم، فإنه لا فرق مؤثرا بين الجوارب والخفاف من جهة أن كليهما يلبس للحاجة، ومن لم ير صحة القياس، ولم تثبت عنده الآثار، لم ير جواز المسح على الجوارب، والمسألة اجتهادية، ولكن الراجح فيها إن شاء الله ما دل عليه عمل الصحابة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدَ كِتَابَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَذَكَرَ فِيهِ مِنَ النُّصُوصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ، بَلْ عَلَى خُمُرِ النِّسَاءِ، كَمَا كَانَتْ أم سلمة زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهَا تَفْعَلُهُ، وَعَلَى الْقَلَانِسِ، كَمَا كَانَ أبو موسى وأنس يَفْعَلَانِهِ، مَا إِذَا تَأَمَّلَهُ الْعَالِمُ، عَلِمَ فَضْلَ عِلْمِ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِهِمْ، مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي ذَلِكَ اقْتِضَاءً ظَاهِرًا، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ عَنْهُ مَنْ تَوَقَّفَ مِنَ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِمَا بَلَغَهُمْ مِنَ الْأَثَرِ وَجَبُنُوا عَنِ الْقِيَاسِ وَرَعًا. انتهى.
والحاصل أن المسألة من مسائل الاجتهاد، فلا يتوجه فيها إنكار، والمرجح فيها إن شاء الله هو ما عرفناك.
والله أعلم.