عنوان الفتوى : نشأة الابن بعيدا عن أحد والديه لا يبيح له التقصير في حقه
أبي طلق أمي وعمري سنتان, وتربيت مع أبي, ثم تزوجت وسافرت إلى الصين, ولا أتصل بأمي كثيرًا؛ لأن تربيتي لم تكن عندها, ولم أحس بحنانها, ولا أحبها كثيرًا, فهل عليّ إثم؟ أفيدوني, جزاكم الله خيرًا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيشكر لك تواصلك معنا, وتثبتك مما تفعلين؛ لئلا يكون عليك فيه إثم, ولعل هذا من توفيق الله عز وجل لك, وإرادته الخير بك؛ لتتوبي من تقصيرك تجاه أمك, وتكثري من صلتها وتعاهدها, فإن حقها أعظم من حق غيرها، وهي أولى الناس بحسن الصحبة والبر, ويدل لهذا ما في الصحيحين عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, من أحق الناس بحسن صحابتي، قال: أمك، قال: ثم من، قال: أمك، قال: ثم من، قال: أمك، قال: ثم من، قال: أبوك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله يوصيكم بأمهاتكم, ثم يوصيكم بأمهاتكم, ثم يوصيكم بأمهاتكم, ثم يوصيكم بآبائكم, ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب. رواه ابن ماجه وصححه الألباني، ونقل الباجي الإجماع على أن الأم مقدمة في البر على الأب، وراجعي الفتوى رقم: 33419.
وكونك قد نشأت بعيدًا عنها ولا تحسين بالحنان والحب لها لا يبيح التقصير في حقها بالصلة, والإحسان, والتعاهد, فذلك من حقها عليك, وهو حق قد وصى الله به, وجعله بعد حقه مباشرة, كما في قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا {الإسراء:23}، وقال: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا {النساء: 36} وقال: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا {الأحقاف: 15}.
وروى البخاري في الأدب المفرد أن ابن عمر رأى رجلًا يطوف بالبيت، وجعل أمه وراء ظهره - أي: حملها وراء ظهره لعجزها عن الطواف - فقال: ياابن عمر, أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة.
فالأم حقها عظيم, فتعاهدي أمك بالصلة والبر والإحسان ما استطعت إلى ذلك سبيلًا, فإن بذل الوسع في إرضائها, والسعي في صلتها وبرها من آكد الأسباب التي توصل إلى الجنة، جاء في حديث معاوية بن جاهمة أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك؟ فقال: هل لك أم؟ قال: نعم. قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجليها. رواه النسائي وغيره، وصححه الحاكم, ووافقه الذهبي, وأقره المنذري, وحسن إسناده الألباني, ورواه ابن ماجه عن معاوية بن جاهمة بلفظ آخر، وفيه: قال: ويحك؛ أحية أمك؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ويحك؛ الزم رجلها فثم الجنة. قال السندي في شرح سنن ابن ماجه: قال السخاوي: إن التواضع للأمهات سبب لدخول الجنة، قلت: ويحتمل أن المعنى أن الجنة - أي نصيبك منها - لا يصل إليك إلا من جهتها، فإن الشيء إذا صار تحت رجلي أحد فقد تمكن منه، واستولى عليه بحيث لا يصل إلى آخر إلا من جهته. انتهى.
فاستغفري الله من تقصيرك في حقها, واطلبي منها المسامحة عما سبق, وأقبلي على برها فيما بقي من عمرها, وستجدين بسبب ذلك خيرًا كثيرًا في الدنيا والاخرة.
والله أعلم.