عنوان الفتوى : لماذا قدر الله ما قدره من الأحداث والفتن في المسجد الحرام عبر الزمان وقد شرّفه وحرّمه ؟
قرأت في الإنترنت أن يزيد هدم الكعبة ، فهل هذا صحيح ؟ فالله يقول : إنه يؤمن بيته بنفسه ؛ كما أن السيول قد اجتاحت الكعبة قديما، وكذلك الفتنة التي وقعت في الثمانينات من رجل زعم أنه المهدي ! فلماذا أذن الله بوقوع مثل هذا ؟
الحمد لله
أولا :
يجب التحري عند قراءة التاريخ ، وأخذه من مصادره الموثوقة ، وعدم اعتماد ما يتناقله
الناس عبر الانترنت وغيره إلا بعد التأكد من صحته ؛ فإن كثيرا من الروايات
التاريخية لا تصح ، بل إن كثيرا منها لا أصل له .
ويزيد بن معاوية لم يهدم الكعبة ، وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم :(
197626).
ثانيا :
لا شك أن الله تعالى شرّف بيته وعظمه حيث جعله قبلة للناس ، ومن دخله كان آمنا ،
قال تعالى : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ) البقرة
/125 .
قال السعدي : " أي: مرجعا يثوبون إليه ، لحصول منافعهم الدينية والدنيوية ، يترددون
إليه ، ولا يقضون منه وطرا ، وجعله أمنا يأمن به كل أحد ، حتى الوحش ، وحتى
الجمادات كالأشجار.
ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام ، ويجد أحدهم قاتل
أبيه في الحرم ، فلا يهيجه ، فلما جاء الإسلام ، زاده حرمة وتعظيما ، وتشريفا
وتكريما " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 65) .
وما حصل من أحداث في المسجد
الحرام مما يخالف حرمته وتشريفه يحمل على أحد أمرين :
أولهما : أن ذلك من إرادة الله الكونية القدرية التي يشاؤها بحكمته وعلمه ، ليبتلي
الخلق ويختبرهم فيما شرعه وقضاه بحكمه .
وقد تقدم في جواب السؤال رقم : (49013)
الفرق بين إرادة الله الشرعية الدينية وإرادته الكونية القدرية ، وبينا أن الإرادة
الشرعية تتعلق بما يحبه الله ويرضاه ، وأن الإرادة الكونية تتعلق بمشيئته سبحانه
وخلقه بمقتضى حكمته وعلمه ، فالله عز وجل يريد إرادة شرعية تعظيم البيت الحرام
وتشريفه وتأمينه وتأمين من يدخله ، ثم إن الله تعالى قد يقدر في الواقع خلاف ذلك
ليبتلي الناس ، ويميز الخبيث من الطيب ، ويعلم مَن مِن خلقه يطيعه ومن منهم يعصيه ،
ومن يعظم حرماته ومن يجترئ عليها .
والله عز وجل أمر بتطهير البيت وتعظيمه وتشريفه ، وقد حرمه الله تعالى ، فهو حرام
بحرمة الله إلى يوم القيامة ، ومن دخله كان آمنا ، هذا ما شرعه الله وأمر به ، وهذه
هي المشيئة الشرعية .
ولكن هذه المشيئة قد تتخلف لحكمة يعلمها الله تعالى ويريدها ، فيقدر الرب سبحانه
خلاف ما شرع وأحب ، فيقع ما لا يرضى ، من عدم تعظيم البيت والاستهانة به وبحقه
وحرمته ، وعدم تأمين من يفد إليه من الحجاج والمعتمرين والزائرين ، كما حصل أيام
القرامطة إذ قتلوا الحجيج ، وطموا بئر زمزم ، وقلعوا الحجر الأسود ، وأخذوه ونكلوا
بالناس أشد تنكيل ، وهذه هي المشيئة القدرية التي يقدرها الله بحكمته وعلمه يبتلى
الناس ويختبرهم بها لينظر كيف يعملون .
قال ابن كثير رحمه الله :
" وروي عن بعضهم أنه قال : كنت في المسجد الحرام يوم التروية في مكان الطواف ، فحمل
على رجل كان إلى جانبي فقتله القرمطي ، ثم قال : يا حمير، ورفع صوته بذلك ، أليس
قلتم في بيتكم هذا : (ومن دخله كان آمنا) آل عمران/ 97 ، فأين الأمن ؟ قال : فقلت
له : اسمع جوابك ، قال: نعم . قلت : إنما أراد الله : فأمِّنُوه .
قال : فثنى رأس فرسه وانصرف "انتهى من "البداية والنهاية" (11 /183) .
وقد يقدر الله عز وجل وقوع
ما لا يحب ، وخلاف ما يأمر به لحكم كثيرة ، منها : - - حصول مقتضيات أسمائه وصفاته
وآثارها .
- تمييز الخبيث من الطيب والمؤمن من الكافر والمطيع من العاصي .
- اصطفاء الشهداء واجتباء الصلحاء .
- رفع درجات من أراد الله بهم الحسنى من أهل السعادة .
ثانيا :
هذه الأحداث التي حصلت لبيت الله الحرام لم تزده إلا حرمة وتشريفا ، ولو أن شيئا
كيد بما كيد به البيت الحرام عبر العصور لما بقيت له اليوم من باقية ، ولكنك لا تجد
البيت الحرام يزداد مع الأيام إلا شرفا ، ومع الأحداث إلا رفعة وحرمة في أعين
المؤمنين وقلوبهم ، فتشتاق أفئدة الملايين من المسلمين في شتى بقاع الأرض إلى
زيارته ، والصلاة فيه والطواف حوله .
وهذا وحده كاف لإثبات شرفه وحرمته ، وهو مما يدل على أن الله تعالى أراد بالبيت
التعظيم والرفعة والحرمة شرعا وقدرا ، كما قال تعالى : ( وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ
كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ ) البقرة/ 125، 126 .
قال ابن كثير رحمه الله :
" ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية : أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما
جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس ، أي: جعله مَحَلا تشتاق إليه
الأرواح وتحن إليه ، ولا تقضي منه وطرً ا، ولو ترددَت إليه كلَّ عام ، استجابة من
الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم ، عليه السلام، في قوله : ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) إلى أن قال: ( رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ )
إبراهيم / 37 -40 ، ويصفه تعالى بأنه جعله أمنًا ؛ من دخله أمن ، ولو كان قد فعل ما
فعل ، ثم دخله : كان آمنًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يَعْرض
له ، كما وصفها في سورة المائدة بقوله تعالى : ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ
الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ) المائدة / 97 . أي: يُرْفَع عنهم بسبب
تعظيمها السوءُ ، كما قال ابن عباس : لو لم يحج الناسُ هذا البيت لأطبق الله
السماءَ على الأرض " .
انتهى من "تفسير ابن كثير" (1 /413) .
وخلاصة الجواب عن هذه
المسألة :
أن ما حصل من أحداث للمسجد الحرام لم يزده إلا تشريفا وتعظيما ، وما وقع فيه من
الشر والفتنة فمن قدر الله الذي شاءه سبحانه بحكمته وعلمه ؛ ليبتلي الناس ويختبرهم
ويصطفي الأولياء والشهداء والأتقياء والأخيار من عباده .
والله تعالى أعلم .