عنوان الفتوى : هديه صلى الله عليه وسلم إذا عاهد قوماً فنقضوا أو نقض بعضهم
أرسلت لكم المرة الماضية سؤالاً حول حادثة بني قريظة, وأعطيتموني جوابًا آخر ليس فيه رد عن سؤالي, فأرجو أن تجيبوني: هل صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل من أنبت من بني قريظة؟ فأنا مثلا أنبت وأنا في الحادية عشر تقريبًا, فهل يعقل أن يُقتل طفل في الحادية عشر من عمره لأن كبار بني قريظة هم من قرر خيانة المسلمين؟ وأين هذا من آية: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فننصحك بالاشتغال بطلب العلم, وتدبر نصوص الوحيين, وتعلم العقيدة الصحيحة, والاعتصام بمنهج أهل السنة والجماعة في الاعتقاد والعمل، والبعد عن شبه أهل الضلال لئلا تنطلي عليك، فإن السلامة لا يعدلها شيء، وقد قال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): قال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه - وقد جعلت أورد عليه إيرادًا بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات - أو كما قال - فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل... انتهى.
وأما عن موضوع السؤال: فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قتل الأطفال، ففي صحيح مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: " اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا.." .
وهذا الأمر مما اتفق عليه أهل العلم أنه لا يجوز قتل الصبيان، قال ابن قدامة في (المغني): إذا فتح حصن لم يقتل من لم يحتلم أو ينبت أو يبلغ خمس عشرة سنة, وجملة ذلك أن الإمام إذا ظفر بالكفار لم يجز أن يقتل صبيا لم يبلغ بغير خلاف. اهـ.
وقال الشوكاني في (النيل): نقل ابن بطال أنه اتفق الجميع على المنع من القصد إلى قتل النساء والولدان. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: إذا سبي النساء والصبيان فلا يجوز قتلهم; لأنه لا يجوز قتلهم أثناء القتال فلا يجوز قتلهم بعد السبي, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: { لا تقتلوا امرأة ولا وليدا }, وروي أنه عليه الصلاة والسلام رأى في بعض غزواته امرأة مقتولة فأنكر ذلك, وقال صلى الله عليه وسلم: هاه ما أراها قاتلت فلم قتلت؟ ونهى عن قتل النساء والصبيان}, ولأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال فلا يقتلون. اهـ.
وإذا كان البلوغ هو الحد الفاصل بين الرجل والطفل، فلا يصح أن يوصف من قتل البالغين بأنه يقتل الأطفال. والإنبات أمارة وعلامة على البلوغ على الراجح من أقوال العلماء، وراجع في بيان ذلك الفتوى رقم: 128806.
وأما قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فلا يصح الاحتجاج به على تخصيص الحكم بالقادة وأصحاب الرأي دون الأتباع، وقد قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8] فالجنود لهم حكم القادة، ومن المعلوم أن إفساد القادة لا يتحقق إلا بمشاركة ومعاونة الجنود، فإذا لم ينكر الأتباع خيانة قادتهم ونقضهم للعهد فلهم حكمهم، قال ابن القيم في (زاد المعاد): كان هديه صلى الله عليه وسلم إذا صالح أو عاهد قوماً فنقضوا، أو نقض بعضهم وأقره الباقون ورضوا به غزا الجميع، وجعلهم كلهم ناقضين؛ كما فعل في بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع، وكما فعل في أهل مكة، فهذه سنته في الناقضين الناكثين. اهـ.
وقال الإمام الشافعي في (الأم): إذا نقض الذين عقدوا الصلح عليهم، أو نقضت منهم جماعة بين أظهرهم فلم يخالفوا الناقض بقول أو فعل ظاهر قبل أن يأتوا الإمام، أو يعتزلوا بلادهم ويرسلوا إلى الإمام إنا على صلحنا .. فللإمام قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم كانوا في وسط دار الإسلام أو في بلاد العدو. وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، عقد عليهم صاحبهم الصلح بالمهادنة فنقض، ولم يفارقوه فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقر دارهم وهي معه بطرف المدينة فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وغنم أموالهم, وليس كلهم اشترك في المعونة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولكن كلهم لزم حصنه فلم يفارق الغادرين منهم، إلا نفر فحقن ذلك دماءهم وأحرز عليهم. اهـ.
وبهذا يعرف أن من أنكر الخيانة ولم يشارك في نقض العهد، بقي دمه وماله مصونا، فلم تزر وازرة وزر أخرى.
والله أعلم.