عنوان الفتوى : كلام أهل العلم حول حلق اللحية وتقصيرها
ماحكم إعفاء اللحية؟ وإذ كان واجبا، فهل هناك من قال بجواز تهذيبها من علماء المسلمين؟ وإذا كان غير جائز فبم يفسر حلقها أو تهذيبها من بعض الشيوخ في القنوات الفضائية الإسلامية؟ وما حكم طاعة الوالدين إذا ألحا في طلب الأخذ منها إلى درجة الامتناع عن الحديث معي إن لم أمتثل؟ وحجتهم في ذلك أنها من الممكن أن تعطلني عن إيجاد عمل، وأنني بذلك ألقي الشبهات على نفسي من الناحية الأمنية ـ الإرهاب ـ وأحطم مستقبلي، وهل هنالك حالات ضرورة يجوز فيها الأخذ منها؟ أفيدونا فضيلتكم جزاكم الله خيرا، الرجاء الإجابة دون الإحالة على فتاوى سابقة قدر الإمكان تكرما من فضيلتكم، لعل الرد يؤدي الغرض على الوجه الأكمل والأمثل.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإعفاء المسلم لحيته، واجب شرعي، للأدلة الصحيحة الصريحة التي جاء فيها الأمر بإعفائها، والقول بتحريم حلق اللحية هو رأي جماهير أهل العلم، بل نقل بعض العلماء الإجماع على حرمة ذلك، فقد قال ابن حزم في مراتب الإجماع: اتفقوا أن حلق جميع اللحية مُثْلة لا تجوز.
وقال أبو الحسن ابن القطان المالكي: واتفقوا أن حلق اللحية مُثْلَة لا تجوز.
وأما عن تهذيبها: فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى القول بجواز قص ما زاد على القبضة من اللحية، وعدم جواز قص ما دون ذلك، وقد روي قص ما زاد على القبضة من اللحية عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة وابن عمر ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ كما نص عليه ابن أبي شيبة في المصنف، وقال الباجي في المنتقى شرح الموطأ: وقد روى ابن القاسم عن مالك لا بأس أن يؤخذ ما تطاير من اللحية وشذ، قيل لمالك فإذا طالت جداً قال أرى أن يؤخذ منها وتقص، وروي عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يأخذان من اللحية ما فضل عن القبضة.
وجاء في البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم قال: قال في غاية البيان: اختلف الناس في إعفاء اللحى ما هو؟ فقال بعضهم: تركها تطول، فذاك إعفاؤها من غير قص، وقال أصحابنا: الإعفاء تركها حتى تكثَّ وتكثر والقص سنة فيها وهو أن يقبض الرجل لحيته فما زاد منها على قبضة قطعها، كذلك ذكر محمد في كتاب الآثار عن أبي حنيفة قال: وبه نأخذ. اهـ.
وأما القول بالأخذ منها فيما دون القبضة فقد قال به جمع من العلماء المعاصرين ولعل من أولئك من رأيت من بعض الشيوخ في القنوات، ولكن المفتى به عندنا في الشبكة هو تضعيفه، وقد قدمنا ذلك في الفتويين رقم: 71215، ورقم: 123606.
ومن النصوص الثابتة في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس. رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: خالفوا المشركين: وفروا اللحى وأحفوا الشوارب. رواه البخاري.
وفي رواية: أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى.
وفي رواية أخرى: خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى.
وقال العراقي في طرح التثريب: من خصال الفطرة إعفاء اللحية, وهو توفير شعرها وتكثيره وأنه لا يأخذ منه كالشارب من عفا الشيء إذا كثر وزاد... وفي الصحيحين من حديث ابن عمر الأمر بذلك: أعفوا اللحى ـ وفي رواية: أوفوا ـ وفي رواية وفروا، وفي رواية: أرخوا ـ وهي بالخاء المعجمة على المشهور، وقيل بالجيم من الترك, والتأخير وأصله الهمزة فحذف تخفيفا كقوله: ترجي من تشاء منهن ـ واستدل به الجمهور على أن الأولى ترك اللحية على حالها وأن لا يقطع منها شيء, وهو قول الشافعي وأصحابه، وقال القاضي عياض: يكره حلقها وقصها وتحريقها، وقال القرطبي في المفهم: لا يجوز حلقها ولا نتفها ولا قص الكثير منها، قال القاضي عياض: وأما الأخذ من طولها فحسن، قال وتكره الشهرة في تعظيمها كما يكره في قصها وجزها، قال: وقد اختلف السلف هل لذلك حد؟ فمنهم من لم يحدد شيئا في ذلك إلا أنه لا يتركها لحد الشهرة ويأخذ منها، وكره مالك طولها جدا ومنهم من حدد بما زاد على القبضة فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة. انتهى.
وقال ابن حجر في شرح حديث البخاري: خالفوا المشركين وفروا اللحى ـ وذكر عن الطبري أنه قال: ذهب قوم إلى ظاهر الحديث فكرهوا تناول شيء من اللحية من طولها وعرضها، وقال قوم: إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد.. ثم ساق سنده إلى ابن عمر أنه فعل ذلك، وإلى عمر أنه فعل ذلك برجل... وذكر عن الحسن البصري أنه يأخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش، وعن عطاء نحوه، واختار الطبري قول عطاء.. وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به.. ..وقال عياض: يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها، وأما الأخذ من طولها وعرضها إذا عظمت فحسن، بل تكره الشهرة في تعظيمها كما تكره في تقصيرها، كذا قال، وتعقبه النووي بأنه خلاف ظاهر الخبر في الأمر بتوفيرها، قال: والمختار تركها على حالها وأن لا يتعرض لها بتقصير ولا غيره... انتهى.
وقال ابن عابدين الحنفي في رد المحتار: يحمل الإعفاء على إعفائها عن أن يأخذ غالبها أو كلها كما هو فعل مجوس الأعاجم من حلق لحاهم ويؤيده ما في مسلم عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: جزوا الشوارب واعفوا اللحى خالفوا المجوس ـ فهذه الجملة واقعة موقع التعليل، وأما الأخذ منها وهي دون ذلك كما يفعله بعض المغرب ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد. انتهى.
ومن هذه النقول يعلم أن الأخذ من اللحية بالقدر المذكور في النصوص السابقة جائز لا حرج فيه ولا سيما إذا أمر به الوالدان، كما يعلم من تلك النقول أيضا أن الحلق وما في حكمه ممنوع ولا يطاع الوالدان إذا أمرا به، لأن طاعة الوالدين لا تشرع في غير المعروف، قال صلى الله عليه وسلم: إنما الطاعة في المعروف. متفق عليه.
وروى أحمد وصححه السيوطي والهيثمي والألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
لكن لو أن شخصا تحقق من حصول الضرر بإعفائها والأخذ المأذون فيه منها، ولم يجد وظيفة ولا وسيلة يعيل بها نفسه وأهله، فلا بأس بأن يفعل ما يريده منه أبواه من باب أن الضرورات تبيح المحظورات، ومتى استغنى عن ذلك وجب عليه توفير اللحية، وأما مجرد توهم الخوف فلا يعد مبررا كافيا لخلاف أمر الله تعالى، وراجع الجواب رقم: 3198.
والله أعلم.