عنوان الفتوى : هل يستحق القاتل المعسر أن يعطى من الزكاة لأداء الدية
هل يعطى القاتل عمداً من أموال الزكاة ؟ مع ذكر الدليل من الكتاب والسنة وأقوال السلف ورأي شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن باز والعلامة ابن عثيمين وهيئة كبار العلماء والمجمع الفقهي ؟ علماً أن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد أجمع أهل العلم على أن دية القتل العمد تجب في مال القاتل، لا تحملها العاقلة، قال ابن قدامة رحمه الله في المغني بعد حكاية هذا الإجماع: (وهذا قضية الأصل، وهو أن بدل المتلف، يجب على المتلف، وأرش الجناية على الجاني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يجني جان إلا على نفسه. وقال لبعض أصحابه: حين رأى معه ولده: ابنك هذا؟ قال: نعم، قال :أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه. ولأن موجب الجناية أثر فعل الجاني، فيجب أن يختص بضررها، كما يختص بنفعها، فإنه لو كسب كان كسبه له دون غيره. وقد ثبت حكم ذلك في سائر الجنايات والأكساب، وإنما خولف هذا الأصل في القتل المعذور فيه، لكثرة الواجب، وعجز الجاني في الغالب عن تحمله، مع وجوب الكفارة عليه، وقيام عذره، تخفيفاً عنه، ورفقاً به، والعامد لا عذر له، فلا يستحق التخفيف، ولا يوجد فيه المعنى المقتضي للمواساة في الخطأ). انتهى
فإن كان للجاني مال أخذ منه قدر الدية، وإن ثبت إعساره أُنظر إلى ميسرة، وكان ذلك دينا في ذمته.
وحينئذ لا مانع من دفع الزكاة إليه باعتباره غارماً من الغارمين، والأصل في ذلك قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].
وقوله تعالى: الغَارِمِينَ شامل بعمومه من لزمه الغرم وهو الدين، سواء استدانه لمصلحة نفسه أو استدانه لغيره، إلا أن كثيراً من الفقهاء قيدوا ذلك بكون الدين لم يؤخذ في معصية لئلا يصبح ذلك ذريعة لإنفاق المال في الحرام اعتمادا على سداده في الزكاة.
ومحل هذا ما لم يتب من معصيته، فإن تاب أعطي من الزكاة لأن التوبة تجب ما قبلها على ما صرح به جمع من أهل العلم.
قال في مغني المحتاج: (مثل من لزمه الدين بإتلاف مال الغير عدوانا فلا يعطى (قلت:الأصح يعطى) مع الفقر(إذا تاب) عنها (والله أعلم) لأن التوبة قطعت حكم ما قبلها، فصار النظر إلى حال وجودها كالمسافر لمعصيته إذا تاب فإنه يعطى من سهم ابن السبيل).
على أن إلحاق مسألة القاتل هنا بمن استدان في معصية محل نظر، إذ يبعد أن يقدم أحد على القتل العمد اتكالا على توفية الدين من الزكاة، لما في القتل العمد من تعريض النفس للقتل قصاصاً.
وما اعتمدناه من جواز دفع الزكاة لهذا القاتل في حال إعساره قد صرح به جماعة من أهل العلم، قال ابن حزم -رحمه الله- في المحلى: (وهي في الخطأ على عاقلة القاتل، وأما في العمد فهي في مال القاتل وحده.... فمن لم يكن له مال ولا عاقلة، فهي في سهم الغارمين في الصدقات، وكذلك من لم يعرف قاتله .
وقال أيضاً في حديث عبد الله بن سهل أن الرسول صلى الله عليه وسلم: وَدَاهُ مائة ناقة : (ثم إن كان قاتل عبد الله قتله خطأ، فالدية على عاقلته، وإن كان قتله عمدا فالدية في ماله. فهو غارم أو عاقلته، وحق الغارمين في الصدقات بنص القرآن، قال الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]) وقال أيضاً: (وفي العمد يكون القاتل إذا قبلت منه الدية غارماً من الغارمين، فحظهم في سهم الغارمين واجب، أو في كل مال موقوف لجميع مصالح أمور المسلمين). انتهى. من المحلى 10/282-284، المسألة (2028).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في فتاويه(11/32) : (ما دام القتل عمداً فالدية تكون في مال القاتل حالة، وحيث ثبت إعساره فقد وجب على مستحقيها إنظاره إلى ميسرة، لقوله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة :280].
وقال فيمن بقي عليه بعض الدية وثبت إعساره: (إلا أنه يستحق أن يدفع له من الزكاة ما بقي بدينه لأنه من الغارمين الذين هم أحد أصناف مصارف الزكاة).
وقال الشيخ عبد الله البسام في كتابه توضيح الأحكام من بلوغ المرام(5/235): (أما الدية في قتل العمد فتجب في مال الجاني، وتكون ضمن الديون التي في ذمته، فإن كان موسرا لزمه الوفاء، وإن كان معسرا فنظرة إلى ميسرة، ويسوغ أن يدفع له من الزكاة ليوفي به هذه الدين لأنه من الغارمين، وإن مات فعلى ولي الأمر قضاء دينه من بيت مال المسلمين). انتهى.
ولم نقف على فتاوى في هذه المسألة للعلماء الذين ذكرهم السائل.
والله أعلم.