عنوان الفتوى : الوشم للتعرف على الجثث بين الجواز والمنع
مع ارتفاع وتيرة العنف في العراق نتيجة لتزايد أنشطة فرق الموت والتفجيرات خاصة في بغداد، واستمرار مسلسل العثور يوميًّا على عشرات الجثث المشوهة بدرجة تضييع هوية أصحابها، أصبح منتهى أمل العراقيين عند خروجهم من ديارهم أن يتمكن أهلهم من التعرف على جثثهم في حال وقوعهم في أيدي هذه الفرق!.
ولم يجد العراقيون من وسيلة لتمكين أهليهم من ذلك سوى وشم أبدانهم بأسمائهم أو بدلالات معينة، فهل هذا جائز شرعا؟
بسم الله ،والحمد لله،والصلاة والسلام على رسول الله ،وبعد: –
لا أتصور أحدا من العلماء يقفز إلى حكم الوشم فيقول حلال أو حرام دون أن يقف ليبكي حال أمتنا الإسلامية، كيف وصل بها الهوان إلى هذا الحد!!
هل أصبح مبلغ أمل إخواننا المسلمين في العراق أن لا تضيع جثثهم وسط هذا المد الجارف من الجثث المتلاطمة في مشهد يومي ولحظي يعرض على شاشات الفضائيات أمام مليار ونصف من المسلمين حتى أصبح إحصاء الجثث أو السكوت عنه سواء!
وماذا عساه يقول المسلمون لربهم يوم القيامة عن هذه الدماء التي تهراق، وهذه الأشلاء التي تتمزق، وهذه البلاد التي تخرب؟ أم ماذا عساه يقول التاريخ عن هذه الفترة المشؤومة ، ألن يتساءل قارئوا التاريخ ساعتها : أين كان المسلمون؟
أين الدعاة والمصلحون والإنسانيون في العراق وغيره؟ لماذا لا يقومون بدورهم لوقف هذه المذبحة التي تتم في أغلبها بين أبناء الأمة الواحدة؟ إذا كانت التكتلات الإسلامية عاجزة عن إيقاف هذا المد الدموي فهم عن غيره أعجز.
إن الخطب أعظم من أن يخطب فيه؛ فإن هذه اللحظة الآن لا تخلو من قتل وإبادة في هذا البلد الحبيب، فأنادي دعاة التقريب من الطائفتين ( السنة والشيعة) أن هذا دوركم فأين جهدكم ، وهذا وقتكم فأين أنتم، إن مشروع التقريب مرهون بحق دماء إخواننا في العراق، فلا بد أن يسلموا بعضهم من بعض، وإلا فعلى هذا المشروع السلام، وتبقى الكلمة كلمة السيف لمن كان معه سيف، وهذا ما ندعو الله ليلا ونهارا أن ينجي منه العراق وغيره من كل بلد مرشح لمثل حالته.
وحتى يكون هذا لا بد من الاعتراف بالواقع والعمل بمقتضاه، فالواقع هو أن أكبر آمال إخواننا في غير منطقة بالعراق أن لا تضل جثثهم في الأرض فيزداد أهلوهم هما إلى هم وحزنا إلى حزن!!! فهل يجوز الوشم لهذا الغرض؟
قد صح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوشم ، روى ذلك أكثر من صحابي ، من ذلك ماروى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( لعن الله الواشمات والموتشمات ، والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله . )
ومن ذلك ما وروى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: { أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة ) .
والوشم جرح الجسم حتى يصير منه الدم ثم يحشى هذا الدم السائل على الجلد ببعض الأصباغ حتى يتغير لون الجلد إلى لون تحبه المرأة، ويبقى هذا اللون الجديد ثابتا لا يزول إلا بمعالجة قوية ، وربما احتاج إلى جراحة.
يقول الحافظ ابن حجر:-
قال أهل اللغة الوشم : أن يغرز في العضو إبرة أو نحوها حتى يسيل الدم ثم يحشى بنورة أو غيرها فيخضر، وقال أبو داود في السنن : الواشمة التي تجعل الخيلان في وجهها بكحل أو مداد، والمستوشمة المعمول بها .انتهى. وذكر الوجه للغالب وأكثر ما يكون في الشفة …..وقد يكون في اليد وغيرها من الجسد، وقد يفعل ذلك نقشا وقد يجعل دوائر، وقد يكتب اسم المحبوب.
وتعاطيه حرام بدلالة اللعن كما في حديث الباب، ويصير الموضع الموشوم نجسا لأن الدم انحبس فيه فتجب إزالته إن أمكنت ولو بالجرح إلا إن خاف منه تلفا أو شينا أو فوات منفعة عضو فيجوز إبقاؤه ،وتكفي التوبة في سقوط الإثم ،ويستوي في ذلك الرجل والمرأة . ” انتهى.
وواضح أن شدة النهي جاء لأن الواشمة تصنع ذلك للتجميل والتحسين وتغيير خلقتها التي خلقت بها، يؤيد ذلك ما جاء في آخر الحديث : ” والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله ” ولذلك قال ابن حجر : “قوله: والمتفلجات للحسن يفهم منه أن المذمومة من فعلت ذلك لأجل الحسن، فلو احتاجت إلى ذلك لمداواة مثلا جاز”.
وقد رأيت في السنة ما يؤيد أن الحرمة لهذا السبب؛ ففي حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود وغيره – بسند صححه الشيخ الألباني- قال : ”
لعنت الواصلة والمستوصلة والنامصة والمتنمصة والواشمة والمستوشمة من غير داء”
قال الشوكاني معقبا على هذا : ” ظاهره أن التحريم المذكورإنما هو فيما إذا كان لقصد التحسين لا لداء وعلة فإنه ليس بمحرم”
ويؤيد ذلك ما اعتذروا به عن وشم أسماء بنت أبي بكر، فقد فأخرج الطبري عن قيس بن أبي حازم قال: ” دخلت مع أبي على أبي بكر الصديق فرأيت يد أسماء موشومة”[1]فمن بعض ما اعتذروا به قول ابن حجر إنها ربما كانت بها جراحة فداوتها فبقي الأثر مثل الوشم، واعتذر الطبري لها بأنها ربما لم يبلغها النهي.
ومعنى ذلك أن من يستخدم الوشم لغير الزينة والتجميل والتحسين قد لا يشمله النهي، وقد ذكر من سمينا أن التداوي ليس داخلا في التحسين، فهل يكون الوشم لأجل أن يستدل به من هذا الباب فيصير الوشم للإنسان كالوسم للحيوان !!!![2]
الذي يظهر لي أن حاجة الناس للتعرف على ذويهم حتى يقفوا على مصيرهم من الحياة أو الموت ، وما يستتبعه ذلك من عدة وميراث ونفقة وغير ذلك …. هذه الحاجة ليست بأقل من التداوي، وليست بأقل من وسم إبل الصدقة.
والله أعلم .
طالع جثة العراقي تعود لأهله.. بالوشم فقط!
[1] – والحديث صححه ابن حجر.
[2] – الوسم : هو كي إبل الصدقة ليعرفها الناس، ورخص فيها جماهير العلماء بالرغم من النهي عن المثلة، إما لأنه مستثنى من المثلة للحاجة إليه ، وإما لأنه ليس داخلا فيها أصلا.