عنوان الفتوى : إفشاء السر خيانة للأمانة
استحلفني شخص بالله على أن لا أقول تنبيها نبهني إياه من جماعة لأحد ربما تجنبا للفتنة، فقلت هذا التنبيه وعن الشخص لأهلي في عرض الحديث، وأصبح جزء من هذا التنبيه فكرة أناقش بها أشخاصا من أفراد الجماعة وأناقش بها أصحابي، مع العلم أنها أفكار عامة كان لي خلفية لا بأس بها عنه، فهل علي حق له؟ أم كفارة يمين؟ أم أن يسامحني؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإفشاء السر خيانة للأمانة، وإذا كان يترتب عليه إضرار فهو محرم، لما فيه من الخيانة والظلم، وقد روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا حدث الرجل بالحديث والتفت فهي أمانة.
وقال الحسن البصري: إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك.
وقال الغزالي في الإحياء: وإفشاء السر خيانة، وهو حرام إذا كان فيه إضرار، ولؤم إن لم يكن فيه إضرار. انتهى.
وأما هذه اليمين: فيلزمك تكفيرها فيما يبدو، لأنك قد حنثت فيها بإخبارك بهذا السر، وكفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن لم يجد شيئاً من ذلك صام ثلاثة أيام، لقوله تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { المائدة:89}.
وعليك أن تستسمح هذا الرجل إن أمكن ذلك، وإذا كان طلب السماح منه يؤدي إلى زيادة البغضاء والشقاق، فعليك طلب السماح منه في الجملة، واكتف بالدعاء له والاستغفار ولا تبين له ما حصل، لئلا يوغر ذلك صدره ويؤدي إلى فساد أكبر، وهذا هو اختيار جمع من المحققين ـ منهم ابن تيمية وابن القيم ـ رحمهما الله، واحتجوا بما يلي:
1ـ أن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، فإنه لا يزيده إلا أذى بعد أن كان مستريحاً قبل سماعه.
2ـ أن هناك فرقاً بين الحقوق المالية وغيرها، لأن الحقوق المالية ينتفع بها إذا رجعت إليه.
قال السفاريني في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب: لا يخلو حق الآدمي من كونه إما ينجبر بمثله من الأموال وقيم المتلفات أولا، فالأول لا بد من رده لأهله من مال ونحوه، وإما ما لا ينجبر بمثله، بل جزاؤه من غير جنسه ـ كالقذف والزنا والغيبة والنميمة ـ فالتوبة عن هذا النوع بالندم والإقلاع وكثرة الاستغفار للمغتاب ونحوه، ولا يحتاج إلى إعلامه ولا استحلاله من ذلك كله، كما اختاره القاضي وشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وجماعة وهو الذي ذكره سيدنا الشيخ عبد القادر، ولأن في إعلامه إدخال غم عليه، قال القاضي فلم يجز ذلك، والفرق بينهما ظاهر، فإن في الحقوق المالية ينتفع المظلوم بعود نظير مظلمته إليه، فإن شاء أخذها وإن شاء تصدق بها، وأما في الغيبة فلا يمكن ذلك ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصود الشارع، فإنه يوغر صدره ويؤذيه إذا سمع ما رمي به، ولعله يهيج عداوته ولا يصفو له أبدا، وما كان هذا سبيله فإن الشارع الحكيم لا يبيحه ولا يجوزه فضلا عن أن يوجبه ويأمر به، ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها، لا على تحصيلها وتكميلها، واختار أصحابنا أنه لا يعلمه، بل يدعو له دعاء يكون إحسانا إليه في مقابلة مظلمته ـ كما روي في الأثر ـ وهذا أحسن من إعلامه، فإن في إعلامه زيادة إيذاء له، فإن تضرر الإنسان بما علمه من شتمه أبلغ من تضرره بما لا يعلم، ثم قد يكون ذلك سبب العدوان على الظالم أولا، إذ النفوس لا تقف غالبا عند العدل والإنصاف، ففي إعلامه هذان الفسادان، وفيه مفسدة ثالثة ولو كانت بحق وهو زوال ما بينهما من كمال الألفة والمحبة أو تجدد القطيعة والبغضة والله تعالى أمر بالجماعة ونهى عن الفرقة. اهـ.
والله أعلم.