عنوان الفتوى : هل يؤخذ قول الإمام الشافعي وإن خالف السنة الصحيحة
لا أستطيع إلا بهذه الكلمات أن أعبر لكم عما بداخلي وما يدور في خلجات نفسي الحزينة من تلك الأمور التي تحصل مع أئمة المساجد عندنا فقد تركوا السنة والتزموا بالبدعة في أكثر أمورهم وقد جرى حوار مع إمام مسجدنا المتعصب لمذهب الإمام الشافعي ـ ذلك الإمام المجتهد العلامة الذي نقف لذكره باحترام لا يوصف ـ ولكنني والله أحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من الشافعي وأكثر من نفسي ذاتها، فبالله عليكم بينوا لي حكم ما جرى بيننا: 1ـ قال لي إمام مسجدنا بأن الإمام الشافعي أتى بكل ما هو صحيح ولم يترك أي شيء في الدين وعلى القرية أن تصير كلها شافعية فتساءلت أين الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى له وللصحابة: اليوم أكملت لكم دينكم؟. 2ـ قال لي بأن الإمام ـ ويقصد نفسه ـ يجب أن يكون المفتي الوحيد في القرية وادعى ذلك من الاحترام له وللإمام الشافعي، فقلت له أليس كلام الرسول صلى الله عليه وسلم حجة على ما يأتي به الشافعي إن بانت لنا السنة؟ فقال لي لا، ليس بحجة ـ بقيت ذلك اليوم مهموما لا يعلم همي إلا الله. 3ـ أول المجادلات معه كانت حول صلاة التراويح، حيث إنه قال لا تجوز إلا عشرين ركعة وقال في العام الماضي إن الذي يريد أن يصلي التراويح ثماني ركعات وثلاث للوتر فإنه لا يصلي التراويح، لأنها غير مقبولة وراسلتكم وأفتيتمونا بالصواب وبالسنة الصحيحة ـ جزاكم الله كل خير ـ فوصل به الأمر عندما كان شيخه على قيد الحياة وافتاه بعشرين ركعة للتراويح أن يكفر الدكتور الذي كان في قريتنا، لأنه يصلي التراويح ثماني ركعات فقام الدكتور بالحلف أنه لن يصلي وراء هذا الإمام، أليس محقا في ذلك؟. 4ـ يقوم هذا الإمام على المنبر أثناء خطبة الجمعة بإيراد أحاديث ضعيفة وموضوعة مثل: اطلبوا العلم ولو في الصين ـ ومن عصاني يوم العيد، فقد عصاني يوم الوعيد ـ والكثير الكثير فرأيت من واجبي ـ كمسلم أولا، ثم إنني طالب جامعي أدرس الطب على دراية بأحاديث ضعيفة وموضوعة يقولها الإمام ـ أن أنبهه على ذلك وأقسم لكم ما فعلتها إلا لوجه الله وحفاظا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعندما أخبرته بذلك انزعج كثيرا وقال ـ من باب الاحترام ـ يجب أن يكون الإمام هو المفتي وأنتم لا تعرفون ذلك وقال إن الذي تنبهون الناس عليه سيضلهم بزعم أن الشافعي أتى بالصحيح حتى لو بانت السنة، وأن علماء الحديث الذين يفتونكم ليسوا ثقات وأخذ يتكلم على الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ وقال بالعامية: إنه لا يسوى قشرة بصلة ـ وتكلم على علماء أجلاء غيره. وأخيرا: يا إخواني لم عد أطيق أن أصلي وراء ذلك الشيخ وهو لا يعرف قراءة القرآن حسب أصولها ويغلط كثيرا وتجويده أقل من الوسط مع أنني في أشد الحاجة إلى صلاة الجماعة. الرجاء منكم يا إخواني أن تنصحوني وتنصحوا ذلك الشيخ باسمه: حتى أريه إياها وعرفوه بالحجة وأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جاء بالصدق، ومنه نهل العلماء هذا العلم الغزير. أفتوا قلبي العليل.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا شك ولا خلاف في إمامة الإمام الشافعي في العلم والعمل، وأنه من أهل الاجتهاد المطلق، وأنه من مفاخر العلوم الشرعية، ومن ذوي العقول الفذة والبصائر النيرة، وإذا تحاكمنا إلى هذا الإمام الكبير في ما قاله إمام مسجدكم، فإن القضية تستبين وتحسم، حيث قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه.
وقال: أجمع الناس على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد.
وقال: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وقال: كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي.
وذكر القاضي عياض في كتابه ترتيب المدارك في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي ـ وهو من كبار أئمة الحديث: كان يجالس الشافعي ويصحبه مع أحمد بن حنبل، فكان الشافعي يقول لهما: ما صح عندكما من الحديث فاعلماني لأتبعه، لأنكما أعلم مني بالحديث. اهـ.
فهذا هو فقه الأئمة، يقوم على تعظيم النصوص والرجوع لها والتحاكم إليها، وهذا موضع اتفاق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته: رفع الملام عن الأئمة الأعلام: الأئمة متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وللإمام ابن القيم في كتابه الفذ إعلام الموقعين باب مهم ومفيد جدا في تحريم الإفتاء والحكم في دين الله بما يخالف النصوص وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص وذكر إجماع العلماء على ذلك فيا حبذا لو رجعتم إليه فستجدون ما يشفي ويكفي ـ إن شاء الله تعالى ـ وللمزيد من الفائدة راجع الفتاوى التالية أرقامها: 26480، 127607، 32653، 121511، 4402.
ومن المفيد أن يعرف إمام مسجدكم أن أئمة المذهب الشافعي ـ كالبيهقي وابن المنذر والنووي ـ ينسبون لمذهب الإمام الشافعي ما يخالف المنقول عنه، طالما صحت السنة بذلك من غير معارضة، ومن أمثلة ذلك ما قاله النووي في المجموع: الصواب الجزم بجواز صوم الولي عن الميت ـ سواء صوم رمضان والنذر وغيره من الصوم الواجب ـ للأحاديث الصحيحة السابقة ولا معارض لها، ويتعين أن يكون هذا مذهب الشافعي، لأنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي واتركوا قولي المخالف له ـ وقد صحت في المسألة أحاديث كما سبق، والشافعي إنما وقف علي حديث ابن عباس من بعض طرقه كما سبق، ولو وقف على جميع طرقه وعلى حديث بريدة وحديث عائشة عن النبي صلي الله عليه وسلم لم يخالف ذلك. اهـ.
وإذا تقرر ذلك عرف خطأ إمام المسجد في ما ادعاه ـ سواء من حيث التأصيل، أو من حيث التفصيل.
وأما مسألة تكفيره لمن يصلي التراويح ثماني ركعات: فهذه مجازفة فجة تنم عن جهل شديد وعصبية مقيتة لا يمكن أن تصدر عن إمام مسجد تعلم مبادئ العلم الشرعي، فصلاة التراويح ليست بفرض إجماعا، فلا يأثم تاركها بالكلية فضلا عن من لا يكملها عشرين ركعة، فما بالك بتكفيره؟! فكيف لو كان هذا العدد ثماني ركعات هو المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم؟! وراجع في ضوابط التكفير وخطر الكلام فيه، الفتوى رقم: 721.
وأما مسألة الطعن في أهل العلم وسبهم وانتقاصهم: فمن المخازي الكبار ـ وسواء وافقناهم، أو خالفناهم في الترجيح ـ وحق العلماء وفضلهم لا يماري فيه إلا جاحد، فلابد من التزام الأدب معهم على أية حال، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 125758، ورقم: 131895، وما أحيل عليه فيهما.
وأما مسألة الأحاديث المكذوبة والموضوعة: فنشرها من أعظم الفرى، والتثبت فيما ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم أمر لازم، ولابد من مناصحة من يتهاون في هذا الأمر، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 31891 41661، 53146.
وأما مسألة الصلاة خلف هذا الإمام: فإن لم يوجد مسجد غير مسجده، فعليك ـ أيها السائل الكريم ـ أن تصبر وتتحلى بالحكمة في معاملته، ولا تنقطع عن المسجد، وانصح له ولأهل المسجد بالحكمة والموعظة الحسنة وادعُ لهم بالتوفيق والسداد والهداية والرشاد، وراجع الفتوى رقم: 70763.
والله أعلم.