عنوان الفتوى : كره الوساوس والنفور منها صريح الإيمان
هل يكفر من فكر في أشياء كفريه كسب أو شتم بدون ما تكون اقتحامية لأن هذا الشخص يعاني من وسواس شديد، ولكن أحيانا يكون طبيعيا ويفكر بمثل تلك الأمور بإرادته وسرعان مايتعوذ منها وهو كاره لها. فالذي أريد أن أعرفه هو تفسير هذا، وأريد تفسيرا لكلام النووي في المقطعين التالين: (الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء، لأنه لا اختيار له ) و(المراد به الخواطر التي لا تستقر. قالوا: وسواء كان ذلك الخاطر غيبة أو كفرا أو غيره، فمن خطر له الكفر مجرد خاطر من غير تعمد لتحصيله ثم صرفه في الحال فليس بكافر ) لو طرأ على الشخص السب ربما بإرادته بينه وبين نفسه ولكنه هو كاره لهذا الشىء. فما حكمه ياشيخ يعلم الله أني أكره أن أكفر وأكره أن أتلفظ بتلك الكلمات فهي كلها تجول في بالي ربما بعضها تكون إرادية وبعضها غير إرادية؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فتفسير ذلك أن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء كلاهما يوسوس ويسول، وقد سبق لنا بيان ذلك مفصلا في الفتوى رقم: 114571.
وسكون أحدهما وسكوته عن الوسوسة لا يستلزم بالضرورة أن يسكن الآخر ويسكت. هذا مع مراعاة أن هناك وساوس تعد نوعا من الأمراض ولا دخل للمرء فيها، كما سننبه عليه في ختام هذه الفتوى.
وعلى أية حال فالعبد لا يؤاخذ بما يهجم عليه من الخواطر والوساوس، سواء كان ذلك من نفسه أو من الشيطان، ما لم يصر ذلك اعتقادا ثابتا وعزما مستقرا يعقد عليه قلبه. فضلا عن كراهته له وخوفه ونفوره منه، فإن هذا قدر زائد على مجرد عدم الاستقرار وغياب عزم القلب. وقد نص أهل العلم على أن كره العبد وخوفه ونفوره من مثل هذه الخواطر والوساوس الشيطانية، علامة على صحة الاعتقاد وقوة الإيمان، فقد جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان. رواه مسلم.
قال النووي: معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه، ومن النطق به، فضلا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك. اهـ. وراجع في ذلك الفتويين: 7950 ، 12300.
والسائل الكريم من هذا النوع إن شاء الله؛ كما يدل عليه قوله: (سرعان ما يتعوذ منها وهو كاره لها). وقوله: (يعلم الله أني أكره أن أكفر وأكره أن أتلفظ بتلك الكلمات).
فليبشر السائل الكريم، فإن هذا يدخله تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم. وفي رواية أخرى: ما حدثت به أنفسها. رواه البخاري ومسلم.
قال ابن حجر: المراد نفي الحرج عما يقع في النفس حتى يقع العمل بالجوارح أو القول باللسان على وفق ذلك، والمراد بالوسوسة تردد الشيء في النفس من غير أن يطمئن إليه ويستقر عنده. اهـ. وراجع الفتوى رقم: 8685. وراجع في الفرق بين الوساوس التي هي من صريح الإيمان والوسوسة التي تدل على ضعف الإيمان، الفتوى رقم: 7950.
وأما كلام 0رحمه الله، فيتضح بأن يعلم السائل أنه ذكر ذلك في باب (باب الغيبة بالقلب) من كتاب (الأذكار) فقال: اعلم أن سوء الظن حرام مثل القول، فكما يحرم أن تحدث غيرك بمساوئ إنسان، يحرم أن تحدث نفسك بذلك وتسيء الظن به ... والمراد بذلك عقد القلب وحكمه على غيرك بالسوء، فأما الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء ..." إلى آخر كلامه الذي ذكره السائل. ثم قال بعد ذلك: وسبب العفو ما ذكرناه من تعذر اجتنابه، وإنما الممكن اجتناب الاستمرار عليه، فلهذا كان الاستمرار وعقد القلب حراما. ومهما عرض لك هذا الخاطر بالغيبة وغيرها من المعاصي وجب عليك دفعه بالإعراض عنه وذكر التأويلات الصارفة له عن ظاهره. اهـ.
فمراده رحمه الله أن العبد إذا لم يؤاخذ بحصول هذه الخواطر والوساوس لتعذر دفع مبدئها، إلا إنه مأمور بمدافعتها بعد ابتدائها والانتهاء عنها بعد حصولها، فإن قصر في ذلك كان ملوما؛ لمخالفته الأمر النبوي بالانتهاء عن ذلك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته. متفق عليه.
ولذلك فإن العبد وإن لم يؤاخذ بلازم هذه الوساوس الكفرية فإنه يؤاخذ إذا قصر في دفعها والانتهاء عنها.
ثم لا بد في الختام من التنبيه على أن هناك أمراضا نفسانية معروفة كالوسواس القهري والتفكير الوسواسي لا يستطيع صاحبها التوقف عن الأفكار السخيفة التي تعرض له، رغم إيمانه بأنها خاطئة، ومحاولته المستمرة في التوقف عنها، وهذا لا شك معفو عنه، بل هو مأجور على مجاهدته لهذه الوساوس، وراجع للأهمية في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 60628 ، 3086 ، 134765.
والله أعلم.