عنوان الفتوى : لا يُحكم بحرمة ابتكار شيء لمجرد ظن استعماله في الحرام
لقد قرأت بعض الفتاوى التي قلتم بها ـ حضرتكم ـ في عدة أسئلة، وكان منها أن سألكم أحد الإخوة عن حكم تصميم قاعدة لحمل التلفاز فأجبتموه أن معظم الناس يستعمل التلفاز فيما لم يحل الله عز وجل، فلذلك فما أراد أن يقوم به رأيتم أن يكون إعانة على المعصية، فهو حرام، لكن سؤالي هو: لو أن المسلمين فكروا بهذه الطريقة منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا لما تطور شيء، فمثلاً: لو خطرت فكرة اختراع الميكروفون على بال مسلم لما اخترعه، لأنه سيخشى أن يستعمل فيما لم يحل الله عز وجل من قبل بعض الناس، وكذلك كيف سيجرؤ المسلم على تقديم اختراع كالأنترنت ـ مثلا ـ إلى العالم؟ لا يمكن القول بأن الأنترنت يمكن وضع جميع القيود عليه، لأن فكرته تقوم على المشاركة الحرة وحرية التعبير عن الرأي، ولذا لا يمكن وضع كل القيود عليه وكيف سيقوم باختراع الأسلحة الحارقة وغيرها؟ أعني أن المسلمين الذين قاموا بالعديد ـ بل بالكثير من المخترعات في عصور تربع الإسلام فيها على حضارة العالم ـ لا أعتقد أنهم فكروا بهذا الأسلوب، ولو كان هذا الأسلوب الفكري هو الأسوب الأمثل، فكيف سنتطور نحن ـ بنو البشر ـ ونعمر الأرض، ولو خاف كل أحد من أن يستخدمه الطرف الآخر ما اخترعه فيما لا يريده المخترع؟ والآن أنا أستعمل نظام تشغيل ويندوز وأستعين به للاتصال بكم ـ جزاكم الله خيراً ـ وكثيرا ما يراودني حلم ـ وهو أن أصنع نظام تشغيل مثله، بل أفضل منه ـ موجه لجمهور المسلمين، لكنني أخشى أن يستخدمه الآخرون في المعصية، لأنه ـ وبلا شك ـ يجب أن يحوي عارضا للصور ومشغلا للصوت والفيديو وغيرها من الأدوات البرمجية التي قد تعين على المعاصي، فإذا فكر الجميع بهذا الأسلوب، فلن تبصر النور الكثير الكثير من المخترعات، وأنا لم أكتب هذه المقالة اتهاما لديننا العظيم، ومن أنا؟ حتى أفعل ذلك، لكنني قمت ب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمبنى الشريعة الإسلامية على جلب المصالح ودرء المفاسد، وعند تزاحم المصالح أو المفاسد يغتفر تفويت أدنى المصلحتين، لتحصيل أعلاهما، حيث استحال الجمع بينهما، كما تغتفر ارتكاب أدنى المفسدتين، لاجتناب أعلاهما حيث استحال الجمع ـ أيضا ـ وإذا تعارضت المصلحة مع المفسدة قدم درء المفسدة على جلب المصلحة.
وهكذا نجد أن شرع الله تعالى مصلحة كله، فحيثما غلبت المصلحة أو قلت المفسدة فثم شرع الله عز وجل، ولذلك حرم الله الخمر رغم ما يمكن حصوله من منافع بسببها، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا {البقرة: 219}.
إذا تقرر هذا عرف أن الشيء الذي يحكم بتحريمه قد يكون فيه مصلحة من بعض الوجوه، ولكن لو غلبت مفاسده أهدرت هذه المصالح، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية ـ أو قال بكفر ـ لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحجر. متفق عليه، واللفظ لمسلم.
قال النووي: فيه دليل لتقديم أهم المصالح عند تعذر جميعها. اهـ.
وقال ابن حجر: فيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة وأنهما إذا تعارضا بدئ بدفع المفسدة. اهـ.
وكذلك، فالأصل أن الاعتبار يكون بالذي يغلب وقوعه، لا بما يندر، والقاعدة في ذلك عند الفقهاء: العبرة بالغالب، والنادر لا حكم له.
وأمر ثالث نقدمه بين يدي الإجابة، وهو أن الظنون الراجحة يجب العمل بها، وقد عقد العز بن عبد السلام لذلك فصلا في كتابه ـ قواعد الأحكام في مصالح الأنام ـ فقال: فصل في بيان جلب مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على الظنون. اهـ.
وبين المقصود من ذلك وضرب له أمثلة كثيرة.
ومسألة الاختراع والابتكار: لا تخرج عن هذه الأصول، بمعنى أن المسلم لو علم أو غلب على ظنه بالقرائن الظاهرة أن ما سينتجه من اختراع أو ابتكار ستكون مفسدته أكبر من مصلحته، ومضرته أعظم من منفعته، فإنه لا يجوز له أن يصنع ما هذا وصفه ومآله، وليس في ذلك نقص ولا نقض للعقل، بل فيه صون له عما لا يليق، فمنفعة العقل أن يحجز الإنسان عن ما يضره أو ما يكون ضره أكبر من نفعه.
وأما بخصوص ما ذكره السائل الكريم: ففيه مغالطة واضحة، إذ لا يُحكم بحرمة شيء لمجرد ظن استعماله في الحرام من قبل بعض الناس ـ كما ذكر السائل ـ بل لا بد أن يحصل العلم أو الظن الغالب الذي ينزل منزلة العلم، وليس في حق بعض الناس، بل في حق أغلبهم أو أكثرهم، لأن العبرة بالغالب ـ كما قدمنا.
وقد سبق لنا بيان أن الأشياء التي يمكن استعمالها في الحلال، كما يمكن استعمالها في الحرام، الأصل فيها الجواز، ما لم يعلم أو يغلب على الظن استعمالها الاستعمال المحرم، فراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 7307، 106897، 111348، 113139، 107551.
وعلى ذلك، فمسألة التلفاز أو غيره من وسائل الإعلام: يتغير حكم استعمالها والإعانة عليها بحسب غالب استعماله، وباعتبار الموازنة بين مصالحه ومفاسده، فيتغير الحكم من زمن إلى زمن، ومن حال إلى حال ومن شخص إلى شخص، وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: كل ما يستعمل على وجه محرم، أو يغلب على الظن ذلك، فإنه يحرم تصنيعه واستيراده وبيعه وترويجه بين المسلمين. اهـ.
وأما بالنسبة لما يراود السائل الكريم من ابتكار نظام تشغيل أفضل من نظام ويندوز: فإننا نشجعه عليه ونوصيه بالاجتهاد فيه، وأن ينوي بذلك نفع المسلمين وخدمة الدين، وذلك بأن يحاول تطويعه لمبادئ الشريعة وصيانته ـ بقدر إمكانه وجهده ـ عن المخالفات الشرعية، فإن استعمال أهل الخير لهذه الوسائل صار كثيرا، والخدمات الشرعية والثقافية والاجتماعية عبر الشبكة العنكبوتية لم تعد نادرة ولا قليلة.
فما من هيئة ولا مؤسسة، بل حتى ولا عالم أو شيخ إلا وله الآن موقع أو صفحة على هذه الشبكة، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 63552.
والله أعلم.