عنوان الفتوى : صلاة المأموم خلف الصف وحده
ما معنى هذا الحديث: لا صلاة وراء الصف؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذا الحديث المسؤول عن معناه: قد ورد بغير هذا اللفظ، فعن علي بن شيبان: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف فوقف حتى انصرف الرجل، فقال له: استقبل صلاتك، فلا صلاة لمنفرد خلف الصف. رواه أحمد وابن ماجه.
ومعنى الحديث واضح: وهو أنه لا يشرع لأحد أن يصلي بمفرده خلف الصف، وإنما اختلف أهل العلم في معنى النفي في هذا الحديث: هل هو نفي صحة، أو نفي كمال؟ فذهب أحمد وإسحق إلى الأول وقالوا ببطلان صلاة المنفرد خلف الصف وأنه تلزمه الإعادة، وأيدوا مذهبهم بما رواه الخمسة إلا النسائي عن وابصة بن معبد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده: فأمره أن يعيد صلاته.
وذهب الجمهور إلى أن صلاة المنفرد خلف الصف صحيحة وحملوا النفي في الحديث على نفي الكمال وقالوا إن الحديث يدل على كراهة صلاة المنفرد خلف الصف، ودليلهم ـ على القول بالكراهة مع الصحة ـ حديث أبي بكرة وأنه ركع دون الصف ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة.
ومنهم من لم ير صحة الأحاديث المروية في هذا الباب.
قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ مبينا مذاهب العلماء في المسألة: وقد اختلف السلف في صلاة المأموم خلف الصف وحده، فقالت طائفة: لا يجوز ولا يصح ـ وممن قال بذلك النخعي والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وحماد وابن أبي ليلى ووكيع.
وأجاز ذلك الحسن البصري والأوزاعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي.
وفرق آخرون في ذلك: فرأوا على الرجل الإعادة دون المرأة.
وتمسك القائلون بعدم الصحة بحديث علي بن شيبان ووابصة بن معبد المذكورين.
وتمسك القائلون بالصحة بحديث أبي بكرة قالوا: لأنه أتى ببعض الصلاة خلف الصف ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، فيحمل الأمر بالإعادة على جهة الندب مبالغة في المحافظة على الأولى.
ومن جملة ما تمسكوا به: حديث ابن عباس وجابر إذ جاء كل واحد منهما فوقف عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤتما به وحده فأدار كل واحد منهما حتى جعله عن يمينه.
قالوا: فقد صار كل واحد منهما خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الإدارة وهو تمسك غير مفيد للمطلوب، لأن المدار من اليسار إلى اليمين لا يسمى مصليا خلف الصف، وإنما هو مصل عن اليمين.
ومن متمسكاتهم: ما روي عن الشافعي أنه كان يضعف حديث وابصة ويقول: لو ثبت لقلت به. ويجاب عنه بأن البيهقي ـ وهو من أصحابه ـ قد أجاب عنه فقال: الخبر المذكور ثابت.
قيل: الأولى الجمع بين أحاديث الباب بحمل عدم الأمر بالإعادة على من فعل ذلك لعذر مع خشية الفوت لو انضم إلى الصف، وأحاديث الإعادة على من فعل ذلك لغيرعذر. انتهى.
والوجه الذي ذكره الشوكاني في آخر كلامه المنقول عنه هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وتلميذه ابن القيم ورجحه العلامة العثيمين ـ رحمه الله ـ وهو التفريق بين من كان معذورا بأن لم يجد مكانا في الصف فتصح صلاته ـ وإن صلى خلف الصف ـ لأنه لا يقدر على غير هذا والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وبين من كان قادرا على الوقوف في الصف، ولكنه قصر فيأمر بالإعادة، قال ابن قاسم في حاشية الروض نقلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله: وقياس الأصول يقتضي وجوب الاصطفاف، وأن صلاة المنفرد لا تصح كما جاء به هذان الحديثان، ومن خالف ذلك من العلماء فلا ريب أنه لم تبلغه هذه السنة من وجه يثق به، ووقوفه وحده خلف الصف مكروه وترك للسنة باتفاقهم، إلا أن لا يجد موقفا إلا خلفه، ففيه نزاع، والأظهر صحة صلاته في هذا الموضع، لأن جميع واجبات الصلاة تسقط بالعجز. انتهى.
وأما التفريق بين الرجل والمرأة فمستنده حديث أنس ـ الثابت في الصحيح ـ أنه قام هو واليتيم خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وقامت أم سليم خلفهما فذة، ولكن ضعف ابن القيم هذا القول وعبارته ـ كما في إعلام الموقعين: وأما المرأة: فإن السنة وقوفها فذة إذا لم تكن هناك امرأة تقف معها، لأنها منهية عن مصافة الرجال فموقفها المشروع أن تكون خلف الصف فذة، وموقف الرجل المشروع أن يكون في الصف، فقياس أحدهما على الآخر من أبطل القياس وأفسده وهو قياس المشروع على غير المشروع، فإن قيل: فلو كان معها نساء ووقفت وحدها صحت صلاتها، قيل هذا غير مسلَّم، بل إذا كان صف النساء فحكم المرأة بالنسبة إليه في كونها فذة كحكم الرجل بالنسبة إلى صف الرجال، لكن موقف المرأة وحدها خلف صف الرجال يدل على شيئين: أحدهما: أن الرجل إذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه وتعذر عليه الدخول في الصف ووقف معه فذا صحت صلاته للحاجة وهذا هو القياس المحض، فإن واجبات الصلاة تسقط بالعجز عنها. انتهى.
فالأقوال في هذا الحديث ـ على ما رأيت ـ القول بالبطلان مطلقا: وهو مذهب الحنابلة فيما إذا صلى ركعة خلف الصف.
والقول بالصحة مطلقا مع الكراهة: وهو قول الجمهور.
والقول الثالث وسط بين القولين: وهو التفريق بين المعذور وغيره، وهو اختيار شيخ الإسلام ومن وافقه.
والله أعلم.