عنوان الفتوى : الأخلاق تقبل التغيير
هل الخوف والشجاعة أمور مسير فيها الإنسان أم مخير؟ فمثلا عندنا رجل من أهل الإيمان ـ نحسبه كذلك ـ يقول: إنه يتمنى الشهادة بصدق، ولكنه متأكد أن لو كانت هناك حرب بين المسلمين والكفار لما استطاع الدخول فيها لجبنه؟ وما صحة القول بأن حسان بن ثابت كان يخاف كثيرا؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأولا لتعلم أخي السائل أن الأخلاق تقبل التغيير قال الإمام أبو حامد الغزالي : اعلم أن بعض من غلبت البطالة عليه استثقل المجاهدة والرياضة والاشتغال بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق فلم تسمح نفسه بأن يكون ذلك لقصوره ونقصه وخبث دخلته فزعم أن الأخلاق لا يتصور تغييرها وأن الطباع لا تتغير.
فنقول: لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: حسنوا أخلاقكم.
وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن؟ إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وكل ذلك تغيير للأخلاق.
والقول الكاشف للغطاء عن ذلك أن نقول: الموجودات منقسمة إلى ما لا مدخل للآدمي واختياره في أصله وتفصيله، كالسماء والكواكب، بل أعضاء البدن داخلا وخارجا وسائر أجزاء الحيوانات، وبالجملة كل ما هو حاصل كامل وقع الفراغ من وجوده وكماله، وإلى ما وجد وجودا ناقصا وجعل فيه قوة لقبول الكمال بعد أن وجد شرطه، وشرطه قد يرتبط باختيار العبد، فإن النواة ليست بتفاح ولا نخل، إلا أنها خلقت خلقة يمكن أن تصير نخلة إذا انضاف التربية إليها، ولا تصير تفاحا أصلا ولا بالتربية، فإذا صارت النواة متأثرة بالاختيار حتى تقبل بعض الأحوال دون بعض، فكذلك الغضب والشهوة لو أردنا قمعهما وقهرهما بالكلية حتى لا يبقى لهما أثر لم نقدر عليه أصلا، ولو أردنا سلاستهما وقودهما بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه، وقد أمرنا بذلك، وصار ذلك سبب نجاتنا ووصولنا إلى الله تعالى، نعم الجبلات مختلفة بعضها سريعة القبول وبعضها بطيئة القبول ولاختلافها سببان:
أحدهما: قوة الغريزة في أصل الجبلة وامتداد مدة الوجود.
والسبب الثاني: أن الخلق قد يتأكد بكثرة العمل بمقتضاه والطاعة له وباعتقاد كونه حسنا ومرضيا. من إحياء علوم الدين مع حذف.
ومن ذلك يتضح أن أصل الجبن والخوف في بعض البشر قد يكون جبليا لا دخل لهم فيه، إلا أن هذا لا ينفي إمكان مجاهدته وتهذيبه بما يجعله منضبطا بضوابط الشرع، بحيث لا يوقع صاحبه في فعل منهي عنه أو ترك مأمور به، فلا يصح احتجاج إنسان بأن ذلك الخلق مركوز فيه، لما سبق من أن الأخلاق تقبل التغيير.
ثانيا: الإنسان ليس مخيرا بإطلاق وليس مسيرا بإطلاق، بل هو مسير ومخير في نفس الوقت، وتفسير ذلك: أن جميع ما يقوم به من أفعال هو تنفيذ لأوامر كونية قدرية سبق تحديدها وليس بإمكانه أن يغير شيئاً منها، فهو من هذا المنطلق مسير.
وهو من جهة ثانية قد أُعطي العقل والحواس التي يميز بها بين النافع والضار، وأعطي القوة لتنفيذ ما يريد ولم يكرهه أحد على انتهاج هذا المسلك أو ذاك، فهو بذلك مخير، فالتسيير المحض: هو أن يهم بفعل فلا يجد الوسيلة لفعله، والتخيير المحض: هو أن يقوم بأفعاله من غير أن تكون محددة سلفاً.
وانظر الفتوى رقم: 4054.
ثالثا: ما ورد عن الصحابي الجليل حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قد أنكره بعض أهل العلم، قال ابن عبد البر: وقال أكثر أهل الأخبار والسير: إن حساناً كان من أجبن الناس وذكروا من جبنه أشياء مستشنعة أوردوها عن الزبير أنه حكاها عنه، كرهت ذكرها لنكارتها.
ومن ذكرها قال: إن حساناً لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من مشاهده لجبنه.
وأنكر بعض أهل العلم بالخبر ذلك، وقالوا: لو كان حقا لهجي به.
وقيل: إنما أصابه ذلك الجبن منذ ضربه صفوان بن المعطل بالسيف. الاستيعاب في معرفة الأصحاب.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة بالسعودية: س: يقول البعض: بأن حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ جبان ويستشهدون بقول ابن حجر ذلك في الإصابة، فما رأيكم في ذلك؟.
ج: الذي ينبغي للمسلم نحو الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أن يذكر محاسنهم ويثني عليهم بما هم أهل له، ويكف عن مساوئهم، وما ذكر عن حسان بن ثابت في كتب التاريخ والتراجم من أنه كان جبانا ـ فعلى تقدير صحته ـ يكون ذكره بذلك غيبة، ولا خير يستفاد من ذكره بذلك، وإن كان كذبا كان وصفه بذلك غيبة وزورا، وكان الكف عن ذلك أوجب، وصيانة اللسان عنه ألزم. هـ.
ويجدر بالذكر أن الخوف لا يقدح في إيمان العبد بإطلاق، وقد سبق تفصيل أنواع الخوف وأحكامه في الفتوى رقم: 96753، وما أحيل عليه فيها.
والله أعلم.