عنوان الفتوى : كل خير تسبب فيه الميت يجري عليه ثوابه
توفيت أمي منذ عشرين يوما-أسألكم الدعاء لها ولنا- هل يمكنني تلاوة القرآن في مصحفها و استخدام مسبحتها التي صنعتها بيديها بنية أن يصلها من الثواب؟ وهل يعتبران مصحفها ومسبحتها صدقة جارية عند استخدامنا لهما؟ وأيضا الأكل من طعام اشترته لنا من مالها قبل وفاتها واحتساب الأجر لها؟لحظة وفاتها كانت مخدرة طبيا هل هون ذلك عليها سكرات الموت، وهل شعرت وتألمت لعدم وجودنا بجانبها؟هل تشعر بشوقنا لها، وهل تحزن إذا سارت حياتنا بشكل طبيعي في غيابها؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله أن يرحم والدتك، ويرفع درجتها في المهديين.
أما قراءتك في مصحفها فهي مما يرجى أن يلحقها ثوابه، إن كانت قد اقتنته تبتغي بذلك وجه الله، وهذا هو ما يظن بها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته. رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني.
وكذلك كل خير تسببت فيه والدتك وانتفع به أحد بعد موتها، وكانت قد قصدت به وجه الله فسيجري عليها ثوابه بفضل الله تعالى، كما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ {يس:12}
قال ابن كثير: أي نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضًا، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كقوله صلى الله عليه وسلم: مَنْ سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومَنْ سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزرُ مَنْ عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا. رواه مسلم. اهـ.
وقال السعدي: هي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرا، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له ..اهـ.
وراجع الفتويين: 64736، 18104. فيدخل في عموم ذلك ما تركته من طعام وغيره.
أما التسبيح بمسبحتها وإن قلناه بجوازه، فلا شك في أن التسبيح بالأصابع أفضل منه، لما صح من فعله صلى الله عليه وسلم له وأمره به، وقد سبق بيان ذلك مفصلا في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 609، 7051، 41435.
وأما شعور الميت بحال أهله فمن الأمور الغيبية التي لا ينبغي الخوض فيها إلا على ضوء نصوص الوحي، ومن هذه النصوص قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا حضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون: اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان. فتخرج كأطيب ريح المسك حتى أنه ليناوله بعضهم بعضا حتى يأتون به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض. فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا. فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية .. رواه النسائي وصححه الألباني.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيرا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا. رواه أحمد، وصححه الألباني في الصحيحة.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الأحياء إذا زاروا الأموات، هل يعلمون بزيارتهم وهل يعلمون بالميت إذا مات من قرابتهم أو غيره؟ فأجاب: نعم، قد جاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم وعرض أعمال الأحياء على الأموات .. مجموع الفتاوى.
وبحث ابن القيم ـ رحمه الله ـ هذه الموضوع في كتاب (الروح) في عدة مسائل، منها: هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا ؟ وقال تحتها: السلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به .... ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا، ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا. اهـ.
ومنها مسألة: أرواح الموتى هل تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا ؟ وقال تحتها: وهي أيضا مسألة شريفة كبيرة القدر، وجوابها: أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة، وأرواح منعمة. فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي. والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا، وما يكون من أهل الدنيا اهـ.
وتعرض ابن كثير أيضا لهذه المسألة في تفسيره عند قوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (التوبة:105) وقال: قد ورد أن أعمال الأحياء تُعرَض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ ... اهـ.
وكذلك تعرض لها باستفاضة عند قوله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ {الروم:52}
وقد سبق أن ذكرنا مسألة سماع الأموات كلام الأحياء، وإحساس الميت وعلمه بما يجري في العالم، في الفتوى رقم:54990.
وأما كون والدتك كانت مخدرة طبيا لحظة وفاتها، وهل هوَّن ذلك عليها من سكرات الموت؟ فالله أعلم بحقيقة ذلك، ولا يترتب عليه حكم شرعي، ولا ينبني عليه عمل، وإن كنا قد قدمنا أن سكرات الموت لا بد منها لكل نفس، فراجع في ذلك الفتويين رقم: 54685، 67177.
والله أعلم.