عنوان الفتوى : وقوع العبد في المعاصي لا يستلزم انعدام محبته لله بالكلية
أنا شاب في المرحلة الجامعية، أحب الله ورسوله إلا إنه يوجد بي داء مهلك ومحبط للأعمال، وهو أني لما أخلو بنفسي على النت مثلا تأتيني الأفكار الشيطانية، وأدخل إلي بعض المواقع التي لا يرضاها الله ولا رسوله، وبعدها أشعر أني كنت في غيبوبة كيف فعلت هذا مع أني محب لله ورسوله ؟ بل إني أستحي من الناس ولا أستحي من الله، ووالله إني أجاهد نفسي كثيرا، وأكون مترددا في مشاهدة تلك الخبائث، لكن تغلبني شهوتي فهل محبتي ادعاء؟ وهل توبتي إلى الله غير صادقة ؟ لأني في كل مرة أتوب لكن أرجع هل أنا خبيث أم طيب؟ أنا لا أعلم لكن كل ما أعلمه أني أحب الله ورسوله مع العلم بأني كنت معارضا إدخال وصلة النت إلى البيت لكن أبي سامحه الله وافق إخوتي وأني أجلس والله الزمن الطويل في حالة شد وجذب مع نفسي ومجاهدة على أن لا أجلس على النت وحدي لكن في النهاية أستسلم وأدخل إلى ما لا يرضاه الله ولا رسوله، والله قبل أن تكتمل الصفحة الخبيثة أغلق النت لكن وجود مثل هذا الخبث داخلي يحتاج إلى علاج. أنا منافق مرائي لأني لا أستطيع أن أفعل هذا أمام الناس، بل إني مشتهر بينهم بالصلاح. أفيدوني؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يثبتك على الصراط المستقيم، وأن يعصمك من الشيطان الرجيم، ويعيذك من شر نفسك وسيئات أعمالك.
وأما محبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فهي على درجات متفاوتة، وإذا تغلغلت هذه المحبة في عروق العبد وأوصاله، أحرقت محبة ما سواها في قلبه، وقطعت علائقه بغير مولاه، فصار يقدم محاب الله على حظوظ نفسه دائما.
ووقوع العبد في المعاصي لا يستلزم انعدام محبته لله بالكلية، وإنما يدل على نقصانها ويقدح في كمالها، وإلا فإن رجلا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله. والقصة مذكورة في صحيح البخاري. فأثبت النبي عليه الصلاة والسلام له محبة.
وأما معاودة الذنب بعد التوبة، فلا يقدح في صدق التوبة عند الأكثرين.
قال ابن القيم رحمه الله: هل يشترط في صحتها(يعني: التوبة) أن لا يعود إلى الذنب أبدا؟ أم ليس ذلك بشرط؟ فشرط بعض الناس عدم معاودة الذنب وقال : متى عاد إليه تبينا أن التوبة كانت باطلة غير صحيحة. والأكثرون على أن ذلك ليس بشرط، وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب والندم عليه والعزم الجازم على ترك معاودته، فإن كانت في حق آدمي: فهل يشترط تحلله؟ فيه تفصيل ... فإذا عاوده مع عزمه حال التوبة على أن لا يعاوده صار كمن ابتدأ المعصية، ولم تبطل توبته المتقدمة. (مدارج السالكين).
ولكن احذر يا أخي أن تركن إلى ذلك، فقد لا توفق للتوبة مرة أخرى؛ فإنك لا تستطيع أن تتوب إلا بإذن الله جل وعلا، فهو المتفضل عليك أولا بتوفيقك لها، ثم هو المتفضل عليك آخرا بقبولها منك.
قال ابن القيم رحمه الله: وتوبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها، وتوبة منه بعدها، فتوبته بين توبتين من الله، سابقة ولاحقة، فإنه تاب عليه أولا: إذنا وتوفيقا وإلهاما، فتاب العبد، فتاب الله عليه ثانيا: قبولا وإثابة (مدارج السالكين)
فإذا وفقك الله إلى توبة صادقة، فاشكره عليها ولا تغتر بحلمه، وتستمرئ معصيته.
وأما عن سؤالك: هل أنا خبيث أم طيب؟ فإنا لا نستطيع الإجابة عليه بإطلاق، فقد يجتمع في القلب من هذا ومن ذاك، فيكون لما غلب عليه منهما.
فعن حذيفة رضي الله عنه قال: القلوب أربعة: قلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح وذلك قلب المنافق، وقلب أجرد فيه مثل سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل النفاق كمثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب عليه غلب. رواه ابن أبي شيبة في المصنف، وأبو نعيم في حلية الأولياء، وصححه الألباني موقوفا على حذيفة رضي الله عنه.
وعليك يا أخي بالاستمرار في مجاهدة نفسك ولا تيأس. قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {العنكبوت:69} وقف على بابه وانطرح بين يديه، وأكثر من التضرع والابتهال إليه؛ فإن الله تعالى حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين. واقترب منه وواصل السير إليه؛ فإن الله سبحانه قد قال في الحديث القدسي: إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة. متفق عليه.
وننصحك بالتحرز من الانفراد بقدر الإمكان، وذكر نفسك بالكلمات التالية، اجعلها أو شيئا منها نصب عينيك دائما بالقرب من جهازك أو على سطح المكتب (disk top)(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) {النساء:108} (وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) {يونس:61} (الله أحق أن يستحيا منه).
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل * خلوت ولكن قل علي رقيب.
ولا تحسبن الله يغفل ساعة * ولا أن ما يخفى عليه يغيب.
(اللّه معي، اللّه شاهدي، اللّه ناظر إليّ)
والله أعلم.