أرشيف المقالات

موقف لكفار بدر لعل زعمائها يتدبرونه!

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
للأستاذ عبد الحكيم عابدين لا تكاد تنتصف أيام الصيام حتى تظلنا من رمضان أحفل ذكرياته بمواكب المجد، وأغنى أيامه بمواقف البطولة، وأوفرمجاليه إشراقا بصورة الفداء والتضحية.
وحسبك بذكرى (بدر) بلاغا إلى كل ما يصقل الروح من معاني العبرة، وما تستشرف إليه النفس من جلال الفكرة (وَلَقَدْ نَصَرَكُم الله بِبَدْرٍ وَأنْتُم أذِلَّة فاتَّقُوا الله لَعَلَّكُم تَشكُرون (. بيد أنى آخذ نفسي اليوم بنهج في تحليل جانب من الذكرى أرجو ألا يثير الانفراد به حفيظة أهل الرأي، وآمل ألا يعقب غرابة السبق إليه أوزار المتزمتين في تصور قداسة الدين.
فحسبي - متى أخلصت القصد - أن أبوء بثاني الأجرين، وما توفيقي إلا بالله. إني إذن مهيب بك أيها القارئ الأثير أن تشاطرني جولة في ربوع مكة وقد استنفرت صناديد قريش لقتال محمد صلوات الله عليه، ثم تغذ معي السير إلى رحاب القليب حيث تراءى الجمعان والتقى العسكران، وإنك لسابقي حينئذ إلى استخراج منازل الفضل التي ندعو إليها زعماء اليوم لا من معسكر الصحابة فذلك ما لا خلاف في روعته وجلاله، بل من معسكر الكفر على ما عرف من بغيه وضلاله! إي وربي لأقنعن زعماء العصر أن يقتدوا بما سجل التاريخ من رجولة كفار بدر، ولهم إن فعلوا ثناء الناس وحمد التاريخ، وأنا بهما زعيم هذه قريش في البيض واليلب، قد هبت لثأر أبي سفيان حين استصرخها لنجدته ضمضم بن عمرو (يا معشر قريش اللطيمة! اللطيمة! إن أموالكم مع أبي سفيان قد أحاط بها محمد وأصحابه، لا أضن أن تدركوها) ولكن قريشا لا تكاد تستكمل أهبتها للمسير حتى يوافيها أبو سفيان قد استطاع أن يفلت بمحاذاة الشاطئ فسلم من حصار محمد وسلمت لقريش التجارة والعروض، وانقضت بذلك حاجة مكة إلى قتال المدينة.
وهنا لا يقنع صناديد مكة المغاوير وفتيان قريش الضيد بالإجابة لداعي السلام، بل (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) وتملي لهم شياطين الكفر علوا واستكبارا، فيأبون أن يضعوا اللامات، أو ينزعوا العصابات، حتى يبلغوا من القتال كما توهموا الإجهاز على محمد ودعوته، ويفضوا من الحرب إلى إعلان مجد قريش وعزتها (وإذْ زيَّنَ لَهُم الشيطانُ أعمالَهُم وقالَ لا غالِبَ لَكُم اليَومَ مِنَ الناسِ وإِنّ جارٌ لَكُمْ) وتتداعى حماسة الثائرين إلى لواء زعيم الصلف والفظاظة أبي جهل فيصوغ مشاعرهم صرخات موحشة (والله لا نرجع حتى نأتي بدرا فنقيم عليها ثلاثا، نشرب الخمور، وننحر الجزور، وتعزف علينا النساء، وتسمع بنا وبمسيرنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبد الدهر) بيد أن صوت العقل لا يضل طريقه وسط هذا الضجيج، وكلمة الفصد والحكمة لا يحجبها عن الآذان صليل هذه البيض، بل تنطلق قوية رزينة مسببة مفحمة على لسان صنديد قريش الأول وزعيمها المطاع عتبة بن ربيعة (يا قوم ما حاجتكم أن تلقوا محمداً غدا وقد سلمت لكم أموالكم ورد الله عليكم رجالكم، إنكم إن لقيتموه فأصاب منكم وأصبتم منه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قد قتل أباه أو ابن عمه أو ابن أخيه.
يا قوم ما يضركم أن تدعوا محمدا والناس، فإن أصيب بيد غيركم كان ذلك الذي أحببتم، وإن كانت الأخرى لقيتموه غدا ولم تعدموا منه ما تريدون) ويسترسل عتبة، ومن ورائه جهابذة قريش وجلة أبطالها وحكمائها؛ كحكيم بن حزام وسهيل بن عمرو، في استدراج قريش إلى وضع السلاح، وإقناعهم بحقن الدماء، في منطق تتساوق أدلته إلى الإفهام، وأسلوب توشك حججه أن تؤثر في الصم الصلاب، حتى يفضي إلى التعرض لحمل التبعة جميعا وينتهي استجابة لداعي العقل والحكمة - إلى التضحية بذكره في مجال الشجاعة وهو فارسها المجلى، والنزول عن حظ نفسه من الثناء والشهرة، وهي خير ما يحرص عليه صنديد عربي، فيقول في ختام هذه الدعوة (يا قوم.
اعصبوها اليوم برأسي وقولوا جبن عتبة وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم). لقد كانت هذه الكلمات من سيد شجعان مكة والمع أبطال قريش جديرة أن ترد السهام إلى كنائنها، وتوسد السيف بطون أغمادها، وتلجم الضوامر الثائرة بشكائمها، فتنساب في مكة هدأة الأمن، وتغشاها من جديد طمأنينة السلام.
ولكن العروبة قرينة العنف في حقها وباطلها، وتربية الصحراء أليفة الثورة في إيمانها وكفرها. (لا يَسألُونَ أخاهُم حينَ يَندِبُهُم ...
في النائِباتِ على ما قالَ بُرهانا) وهكذا غلب ضجيج الحماقة على صوت الحكمة، وفتكت شرة الحرب بدعوة السلم فخرجت قريش بخيلها ورجلها تحاد الله وتكذب رسوله وتبغي في الأرض الفساد.
وكذلك ساخ في ركام النزق والغرور رأي عتبة على نضجه واستقامته، وانجرف في غمرة التيار عتبة بن ربيعة على شرفه في القوم وزعامته، ولم يدر إلا وقد فصلت الفيالق تجاه بدر، وتيممت كتائب قريش القليب!! ترى ما عسى أن يصير إليه موقف عتبة وقد صدق عشيرته النصح فلم تنتصح، ونخل لقومه مخزون الرأي فلم يرشدوا. هنا هنا موطن العبرة للساسة، بل منزل القدوة للزعماء والقادة. هذا عتبة وقد أهمل رأيه على وساطته في قومه، ووضوح السداد في دعوته، لا يشغب على الجماعة، ولا يأتي عملا أو قولا يضعف هيبتها أمام الأعداء. وهذا عتبة وقد انعقد إصرار الأمة على القتال، لا يجدوا لرأيه حقا على نفسه حتى في أن يأوي إلى الصمت والاعتزال. وهذا عتبة ينكر ذاته، ويفنى وجوده في أمته، فيأخذ أهبته لعسرة النضال. وهذا عتبة وقد اعتصب للحرب، لا يدع ظلا من شبهة في أنه استكره على الخروج أو أحرج في اللقاء. بل هذا عتبة وقد جد الجد، وشمرت عن ساقها الحرب، يحتل مكان الصدارة بين المقاتلين، وقد كان بالأمس عدو القتال، فيضرب المثل الرائع في إيثار الوحدة، وفناء الفرد في الجماعة، وإذابة الرأي الواحد وإن استقام وصفا، في مشيئة الأمة متى تيممت وجهة أخرى. إي والله.
.
هذا عتبة يرى في طليعة الصفوف، ويتوج هامته بعصابة الحرب ويجعل عن يمينه - في راس الجيش كذلك - أخاه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، يوقد بهما شرارة الحرب الأولى، ويعجل بنفسه وبهما غبار النقع في غزو بدر الكبرى. اسمعوا إليه أيها السادة الزعماء وهو يلقي القفاز في وجه عصبة الحق، ويتحدى كتائب الإيمان، فيطالب الرسول (صلوات الله عليه) أن يجعلها مبارزة رجل برجل!! بل اسمعوا إليه وقد ابتدر فتيان الأنصار هذا التحدي، وخفوا لالتقاط القفاز، كيف يعرض عن قتالهم ويغلو في الاعتداد بشرف قومه - وهم الذين أهملوا رأيه ونصحه - فيقول الرسول العظيم (بل أخرج إلينا أكفاءنا من بني عمومتنا من قريش) وأطلوا على الموقف أيها الزعماء الأجلاء، وقد استعلنت عزة الحق بلسان النبي، وصرخت كرامة الأيمان في ندائه الأبي، (أخرج إليهم يا علي بن أبي طالب فعليك بالوليد، ويا حمزة بن عبد المطلب فعليك بعتبة، ويا حارث بن عبد المطلب فعليك بشيبة) لحظات من الفتوة العربية في إيمانها وكفرها، إن ملأت النفوس هيبة من جلال الحق وخشوعا لسلطان العقيدة في معسكر المؤمنين، فمن الإنصاف أن نشيد بما تصبه في مسمع الدهر من تخليد لرجولة هؤلاء العصبة المشركين. ولا يطول ريث الفريقين حتى تخلص لهم عاقبة هذا الصراع: لقد انتصرت السماء لجندها المؤمنين، فما هي إلا لحظات حتى كانت دماء عتبة وأخيه وأبنه الوليد تتدافع من صدورهم وجنوبهم ثارة دفاقة في فجاج الثرى توشك - لو أذن لها بالإفصاح - أن تقول للتاريخ الإنسانية (أنا الثمن الطبيعي للحفاظ على وحدة الجماعة، والفدية المتقبلة للإبقاء على استمساك كلمة الأمة، لا بأس أن يهلك أبناء ربيعة وتحيا كلمة قريش أبية كريمة) وا أسفاه يا عتبة أنك خرجت من الدنيا كافرا لا يحل الترحم عليك (ما كانَ للنَبيِّ والّذينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا للمُشْرِكينَ ولَو كانُوا أُولي قُربى) ولكن القدر الواضح في خلقك من الرجولة، والضوء الغالب على عملك من تقديس وحدة العشيرة، والمثل الساري في تاريخك من إصغار رأى الفرد في سبيل الجماعة، والأدب المتألق من سبقك - وإن أهدرت مشيئتك - إلى افتداء شرف الأمة.
كل ذلك يا عتبة بل بعض ذلك ورب الكعبة مواطن للقدوة تندب إليها أئمة الزمان المحتربين ونتمنى بجدع الأنف لو وجدت لها صدى في نفوس زعماء القرن العشرين، الذين أشقوا بتناكرهم البلاد، وأطعموا شرة خلافاتهم مصاير المحكومين. ألا فروا رأيكم، يا زعماء مصر، أين تقفون من بطولة هذا الزعيم من كفار بدر، ولا روع عليكم أن تتخذوه قدوة، وإن اتسمتم من دونه بسمة الإيمان، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها - قيل: لا يبالي من أي وعاء خرجت. والفضل فضل وإن اختلفت الأيدي على تناوله، والمثل الرفيع كذلك وإن خفت همم أهل الكفر إلى تداوله، (وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنْآن قُوم على ألا تعدلوا، اعدلوا، هو أقرب للتقوى، واتقوا الله) عبد الحكيم عابدين

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢