عنوان الفتوى : أضواء على حجاب الإماء وحد قذفهن

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

قرأت كثيرا عن الرق في الإسلام، لكن عند قراءتي لتفسير بعض الآيات الكريمة لم أفهم شيئا :عند تفسير آية الحجاب " 59 من سورة الأحزاب" قرأت ما يلي : قال السدي في هذه الآية : كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام الى طريق المدينة فيعرضون للنساء، وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطريق يقضين حاجاتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا: هذه حرة، فكفوا عنها، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا: هذه أمة، فوثبوا عليها. انتهى. وفي تقسير الآية التي بها حد القذف في سورة النور قرأت: العفيفات يعني الحرائر ثيبات أو أبكارا.انتهى. فهل معنى هذا أن غير الحرة يفعل بها أولئك الفساق ما يشاؤون دون رادع وهي الضعيفة؟ وهل إذا اتهم شخص أمة – غير حرة – بالزنا لا يؤمر بالإتيان بأربعة شهداء أو يجلد..؟ إذن كيف يتحقق من أنها زنت، وإن لم تكن قد زنت كيف يجبر خاطرها إذا اتهمت في عرضها، أو ليست نفسا؟ ما أظن الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم يتركون ضعافا دون حماية، فأرجو الإفادة جزاكم الله خيرا.

مدة قراءة الإجابة : 10 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

 فان الإسلام قد حمى عرض المملوك وحرم عليه الزنى وحرم قذفه واغتصابه والاعتداء على عرضه، ولم يبح معاشرة الإماء إلا بملك اليمين أو بعقد صحيح بإذن الولي، ومن ارتكبت منهن الفاحشة يقام عليها الحد لقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ {النساء:25}.

وقد منع الشرع ما كان عند أهل الجاهلية من الزنى بالإماء والاتجار بأعراضهن فقال الله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ {النور: الآية33}.

 فقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره معنى هذه الآية قائلا: كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فلما جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك، وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة -في ما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف- في شأن عبد الله بن أبي بن سلول، فإنه كان له إماء فكان يكرههن على البغاء طلبا لخراجهن، ورغبة في أولادهن، ورياسة منه في ما يزعم. انتهى.

وأما التفريق بين الحرائر والإماء في اللباس فإنما شرع رفقا بالإماء لما يعملنه من الخدمة ولا يراد به إباحتهن للفساق ولا إباحة النظر إلى مفاتنهن إن خشي الافتتان بهن، بل يجب غض البصر عمن تخشى به الفتنة منهن، كما يجب على السلطان منع الفساق من الاعتداء عليهن بما يردعهم، فقد قال الله تعالى في قمع مرضى القلوب: لَئِن لَّمْ ينتهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً. {الأحزاب:60- 61}.

 وقال الشيخ الأمين الشنقيطي في أضواء البيان عند الكلام على معنى قوله: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ قال: لأن إدناءهن عليهن من جلابيبهن يشعر بأنهن حرائر، فهو أدنى وأقرب لأن يعرفن، أي يعلم أنهن حرائر، فلا يؤذين من قبل الفساق الذين يتعرضون للإماء، وهذا هو الذي فسر به أهل العلم بالتفسير هذه الآية، وهو واضح، وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض، وأنهم يدخلون في عموم قوله: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، في قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا {الأحزاب: 60-61} ومما يدل على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض، قوله تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ {الأحزاب: 32}، وذلك معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى:

حافظ للفرج راض بالتقى    * ليس ممن قلبه فيه مرض

 وفي الجملة: فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء ليهابهن الفساق، ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم، وله أسباب أخر ليس منها إدناء الجلابيب. اهـ

وقال شيخ الإسلام في الفتاوى: والحجاب مختص بالحرائر دون الإماء كما كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه أن الحرة تحتجب والأمة تبرز...

وقال تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ {النور: 60}. فرخص للعجوز التي لا تطمع في النكاح أن تضع ثيابها فلا تلقي عليها جلبابها ولا تحتجب وإن كانت مستثناة من الحرائر لزوال المفسدة الموجودة في غيرها كما استثنى التابعين غير أولي الإربة من الرجال في إظهار الزينة لهم لعدم الشهوة التي تتولد منها الفتنة، وكذلك الأمة إذا كان يخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها وتحتجب ووجب غض البصر عنها ومنها. وليس في الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء ولا ترك احتجابهن وإبداء زينتهن ولكن القرآن لم يأمرهن بما أمر الحرائر والسنة فرقت بالفعل بينهن وبين الحرائر ولم تفرق بينهن وبين الحرائر بلفظ عام بل كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء، واستثنى القرآن من النساء الحرائر القواعد فلم يجعل عليهن احتجابا، واستثنى بعض الرجال وهم غير أولي الإربة فلم يمنع من إبداء الزينة الخفية لهم لعدم الشهوة في هؤلاء وهؤلاء، فأن يستثنى بعض الإماء أولى وأحرى وهن من كانت الشهوة والفتنة حاصلة بترك احتجابها وإبداء زينتها. وكما أن المحارم أبناء أزواجهن ونحوه ممن فيه شهوة وشغف لم يجز إبداء الزينة الخفية له فالخطاب خرج عاما على العادة فما خرج عن العادة خرج به عن نظائره، فإذا كان في ظهور الأمة والنظر إليها فتنة وجب المنع من ذلك كما لو كانت في غير ذلك، وهكذا الرجل مع الرجال والمرأة مع النساء: لو كان في المرأة فتنة للنساء وفي الرجل فتنة للرجال لكان الأمر بالغض للناظر من بصره متوجها كما يتوجه إليه الأمر بحفظ فرجه، فالإماء والصبيان إذا كن حسانا تختشى الفتنة بالنظر إليهم كان حكمهم كذلك كما ذكر ذلك العلماء.... وكذلك المرأة مع المرأة وكذلك محارم المرأة: مثل ابن زوجها وابنه وابن أخيها وابن أختها ومملوكها عند من يجعله محرما: متى كان يخاف عليه الفتنة أو عليها توجه الاحتجاب بل وجب. وهذه المواضع التي أمر الله تعالى بالاحتجاب فيها مظنة الفتنة ؛ ولهذا قال تعالى: ذلك أزكى لهم...اهـ

وأما بالنسبة للقذف.. فقد ذهب الجمهور إلى أن من قذف مسلما حرا بالغا عاقلا عفيفا عن الفاحشة التي رمي بها فقد استحق حد القذف، فخص الجمهور هذا الحكم بالأحرار، وسوَّى الظاهرية وبعض أهل العلم في الحد بين الحر والعبد، ولكنهم كلهم متفقون على تحريم قذف المماليك لما في الوعيد المترتب عليه في الحديث: من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال. متفق عليه.

قال ابن حجر في الفتح: قال المهلب: أجمعوا على أن الحر إذا قذف عبدا لم يجب عليه الحد ودل هذا الحديث على ذلك لأنه لو وجب على السيد أن يجلد في قذف عبده في الدنيا لذكره كما ذكره في الآخرة وإنما خص ذلك بالآخرة تمييزا للأحرار من المملوكين فأما في الآخرة فان ملكهم يزول عنهم ويتكافؤون في الحدود ويقتص لكل منهم إلا أن يعفو ولا مفاضلة حينئذ إلا بالتقوى. قلت: في نقله الإجماع نظر فقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع سئل ابن عمر عمن قذف أم ولد لآخر فقال يضرب الحد صاغرا وهذا بسند صحيح وبه قال الحسن وأهل الظاهر. وقال ابن المنذر: اختلفوا فيمن قذف أم ولد فقال مالك وجماعة يجب فيه الحد وهو قياس قول الشافعي بعد موت السيد وكذا كل من يقول أنها عتقت بموت السيد. وعن الحسن البصري أنه كان لا يرى الحد على قاذف أم الولد. وقال مالك والشافعي من قذف حرا يظنه عبدا وجب عليه الحد. انتهى.

وفي المحلى لابن حزم قال أبو محمد: اختلف الناس فيمن قذف عبدا أو أمة بالزنا: فقالت طائفة: لا حد عليه كما روي عن النخعي، والشعبي أنهما قالا جميعا: لا يضرب قاذف أم ولد. وعن حماد بن أبي سليمان قال: إذا قال رجل لرجل أمه أم ولد أو نصرانية: لست لأبيك ؟ لم يضرب، لأن النفي وقع على الأم. وعن ابن سيرين قال: أراد عبيد الله بن زياد أن يضرب قاذف أم ولد، فلم يتابعه على ذلك أحد. وقد روي عن عطاء، والحسن، والزهري: لا حد على قاذف أم ولد. قال علي: وممن لم ير الحد على قاذف العبد والأمة: أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وعثمان البتي، والحسن بن حي، والشافعي، وأصحابهم. وقالت طائفة بإيجاب الحد في ذلك.

 ونحسب أن هذا القدر كاف لما أثاره السائل مع التنبيه على أن أحكام الشرع صادرة من عليم خبير وهو أعلم بمصالح عباده وأرحم بهم من أنفسهم.

 وعلى المسلم أن يذعن لكل ما صح من هذه الأحكام وليس له أن يعترض على شيء منها بمجرد رأيه واجتهاده.

والله أعلم.