الفرح الأكبر والأعظم
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
الفرح الأكبر والأعظمالحمدُ لله الذي تفرَّد بالجلال، والعظمة والعز والكبرياء والجمال، وأشكره شكرَ عبدٍ معترف بالتقصير عن شكر بعضِ ما أُولِيَه من الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآلِه وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد كنت ذكرتُ في مقالٍ لي سبق نشره على الشبكة المحبوبة (شبكة الألوكة)؛ بعنوان: "الفوز المبين والأكبر والأعظم" أن الفوزَ الأكبر والأعظم هو الذي يُتحصَّل منه على الرِّبح، وتَنتفي معه الخسارة والغَبن، وأنه لا يمكن أن يكون ربحٌ وفوز أعظم من أن يكون صاحبُه قد نجا من النار وزُحزح عنها، وزُفَّ إلى الجنة ودخلها.
وسوف أعرِّج في مقالي هذا حول أمر آخر مهم؛ وهو حول جزئية من جزئيات الفرح الأكبر والأعظم، وأبيِّن كيف أن ثمة أجزاء قد تطغى من الفرحة بعضها على بعضها الآخر، بل لا أراني مبالغًا إن قلت: إنها تُنسيها.
وقبل ذلك أقول: يقول الله عز وجل: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].
قال ابن القيم رحمه الله في "اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص: 6): "وقد دارت أقوال السلف على أن فضلَ الله ورحمته الإسلامُ والسُّنَّة، وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما، وكلما كان أرسخَ فيهما، كان قلبه أشد فرحًا؛ حتى إن القلبَ إذا باشر روح السُّنَّة لَيرقصُ فرحًا أحزن ما يكون الناس".
لا شكَّ أن الهداية إلى الإسلام، والتمسُّك بالسنة، والتوفيق إلى الطاعات والخير: من أعظم ما يفرح به المؤمنون، وثَمَّةَ ما يكون من الأمور الأخرى التي تأتي عليه في طريق سيره هذا، هي أيضًا مما يستدعي الفرح بها، والسرور منها.
لكن ما أردت الحديثَ عنه في غضون هذه المقالة هي جزئية بسيطة - كما أشرت سابقًا - ظهرَتْ لي؛ وهي: أن ثمة فرحًا أكبرَ وأعظم ينسيك - لعِظَم وَقْعِه ومكانته وعِظمِه وفضله - الفرحَ الكبير والعظيم، والأمثلة التي يتضح بها هذا، والتي وقفت عليها حقيقة - كثيرةٌ، وسوف أسوق هنا شيئًا يسيرًا منها؛ للبيان والتمثيل، وللدلالة على ما بعدها؛ فمنها:
المثال الأول:
ما رواه البخاري رقم: (4676) ومسلم رقم: (799) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لأُبَيٍّ رضي الله عنه: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [البينة: 1]))، قال: وسمَّاني؟! قال: ((نعم))، فبكى!
وفي رواية لمسلم رقم: (799): قال آللهُ سمَّاني لك؟! قال: ((اللهُ سمَّاك لي))، قال: فجعل أُبيٌّ يبكي!
فتأمل: كيف أن الفرح الأكبر والأعظم، وهو هنا: أن الله عز وجل سماه باسمه، جعله - لعظمه؛ ولأنه لا يمكن أن يقارن بشيء آخر - يبكي؛ وهذا لشدة فرحه وسروره رضي الله عنه؛ ولذلك شغله عن الفرح الكبير والعظيم، وهو هنا قراءةُ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، عليه رضي الله عنه؛ وهي قراءةُ إبلاغ وإسماع، قال ابن كثير رحمه الله: "ومعنى: ((أن أقرَأَ عليك القرآن)): قراءة إبلاغٍ وإسماع، لا قراءة تعلُّم منه، هذا لا يَفهمُه أحدٌ من أهل العلم، وإنما نبَّهنا على هذا؛ لئلَّا يُعتقَد خلافُه".
المثال الثاني:
ما رواه مسلم رقم: (181) عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا دخل أهلُ الجنة الجنةَ، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟
فيقولون: ألم تبيِّضْ وجوهَنا؟!
ألم تُدخِلْنا الجنة، وتنجنا من النار؟!
قال: فيُكشَف الحجابُ؛ فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل)).
فتأمل: كيف أن الفرحة الكبرى والعظمى، وهي هنا: رؤية الله عز وجل، طغَتْ على ما سواها من تبييض وجوههم، ونجاتهم من النار، وفوزهم بالجنة، وحُقَّ واللهِ لهم ذلك.
المثال الثالث:
ما رواه البخاري رقم: (6183) ومسلم رقم: (2829) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهلَ الجنة!
فيقولون: لبَّيك ربنا وسعديك.
فيقول: هل رَضِيتم؟
فيقولون: وما لنا لا نرضى؛ وقد أعطَيْتنا ما لم تُعطِ أحدًا من خلقك؟
فيقول: أنا أعطيكم أفضلَ من ذلك.
قالوا: يا رب، وأيُّ شيء أفضل من ذلك؟!
فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعدَه أبدًا)).
ثم تأمَّل هنا كيف أن الفرحَ الأكبر والأعظم - وهو رضوان الله عز وجل، الذي لن يعقبه سخطٌ عليهم بعده أبدًا - شغَلَهم عن كلِّ فرح سواه كان قد تحصل لهم، أو حصلوا عليه، وحق لهم، وكيف لا يكون كذلك؟!
ولذلك؛ شغلهم ذلك عن الفرحِ بَلْه الأفراح التي سواه الكبيرة والعظيمة؛ من النجاة من النار، ودخول الجنة، والحصول على ما لم يَحْصُل لغيرهم أو يتحصلوا عليه...، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن أو يشمِّر له، وأن يسعى إليه، وهو كلُّه تبع للفرح بفضله ورحمته عز وجل.
يقول ابن القيم رحمه الله في "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص: 421): "الفرح بفضله ورحمتِه تَبَعٌ للفرح به سبحانه؛ فالمؤمن يفرح بربه أعظمَ من فرح كل أحد بما يفرح به من حبيب، أو حياة، أو مال، أو نعمة، أو مُلْك، يفرحُ المؤمن بربه أعظم من هذا كله، ولا ينال القلب حقيقة الحياة حتى يَجِد طعم هذه الفرحة والبهجة؛ فيظهر سرورها في قلبه، ونضرتها في وجهه، فيصير له حال من حال أهل الجنة حيث لقَّاهم الله نضرة وسرورًا، فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فهذا هو العلم الذي شمَّر إليه أولو الهمم والعزائم، واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم.
تلك المكارمُ لا قعبان من لبنٍ ♦♦♦ شِيبَا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالَا
فأسأل الله عز وجل أن يرزقنا من فضله ورحمته في الدنيا والآخرة ما تقرُّ به عيوننا، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.