تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله.

أيها الإخوة:إن الله تبارك وتعالى بين لنا في القرآن الكريم أعظم بيان وأوضحه حقيقة هذه الحياة الدنيا،فقال تعالى:وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45] وقال سبحانه:إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ [يونس:24] وقال سبحانه: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17].

وبيَّن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته أوضح بيان، فقال عليه الصلاة والسلام: {مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها} إن هذه الدنيا كما رُوي عن عيسى عليه السلام: [[إنما هي قنطرة يجب على الإنسان أن يعبرها ولا يَعمُرها]] فهذه الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها، أما الدار التي فيها القرار فهي الدار الآخرة: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].

ولذلك فإن هذا الإنسان في هذه الدار إنما هو فقير بطبعه، كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:17] فالإنسان فقير مهما يكن جمع من الأموال ومهما يكن له من الأولاد، ومهما يكن له من السلطان؛ فهو فقير لأن المال يزول، والولد يموت، والسلطان يزول، ويبقى الإنسان ضعيفاً محتاجاً، وحتى مع بقاء المال والجاه والسلطان والولد يبقى الإنسان فقيراً محتاجاً إلى الله عز وجل.

وأنتم تعرفون في حياتكم العملية كثيراً من الناس حتى مع غناهم ومع سلطانهم ومع كثرة أموالهم وأولادهم تجدونهم يصابون -مثلاً- بالقلق النفسي أو بغيره من الأمراض فتتحول حياتهم إلى جحيم لا يطاق، ويتمنى الواحد منهم أن يتخلى عن كل ما يملك في سبيل تحصيل السعادة التي فقدها، وهذا يبين لك أن الغنى ليس في المال والولد وغيره، وإنما الغنى في القلب، وأن العبد فقير في جميع الأحوال محتاج إلى الله عز وجل ثم هو مع هذا كله؛ حتى ولو فرض بقاء المال والولد والسلطان وحتى لو فرض وجود السعادة في قلبه؛ هو فقيرٌ في هذه الحال، ولا أدل على فقره من أنه يبقى خائفاً من هذا الموت المحتوم المقدور عليه، فهو يترقبه بكرة وعشياً، وهذا الموت هو سلطان جعله الله على رقبة كل مخلوق حتى الرسل والملائكة، فجميع المخلوقين يموتون ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

ولذلك فالإنسان يحس دائماً وأبداً بالخوف والقلق من هذه الأعراض التي تنهشه أو تتناوشه، ثم من هذا الموت الذي لا بد له منه، ولذلك روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً مربعاً، وخط في وسطه خطاً خارجاً منه، وخط خطوطاً صغاراً إلى هذا الخط الطويل من جهته التي في الوسط -في وسط المربع- ثم قال صلى الله عليه وسلم: هذا الإنسان -هذا الخط الطويل الخارج من المربع هو الإنسان- وهذا أجله محيط به، وهذه الخطط الصغار هي الأعراض، إن أخطأه هذا نهشه هذا}.

إذاً: فالإنسان معرض لهذه الأعراض من الأمراض والمصائب والنكبات والفقر وغيرها؛ فإن سلم من هذا أصابه هذا ولابد، لأن الدنيا دار أقدار، ولا بد فيها من المصائب لكل إنسان، ثم بعد هذه الأعراض كلها يأتي هذا الموت الذي يقطع على الإنسان آماله وطموحاته وتطلعاته.

هذا هو الإنسان، وإذا كنا جميعاً ندرك حقيقة هذا الأمر وحقيقة هذه الدنيا، فإننا نجد كثيراً من الناس، بل أكثرهم يعيشون دنياهم في خوفٍ وقلق، فلو نظرنا -مثلاً- إلى غير المسلمين بكافة أنواعهم لوجدنا أنهم يعيشون في حالة خوفٍ دائم لا يهنأ لهم ضمير ولا يرتاح لهم بال؛ خوفاً من هذه المصائب والكوارث، ثم خوفاً من هذا الموت الذي يدركون أنه ملاقيهم لا محالة.

ولذلك تجدون الكافرين يشعرون بأن هذا الكون كله عدوٌ لهم، وهم حين يتجهون فيه إلى العلم الذي يكتشفون فيه أسرار الكون؛ يتجهون من منطلق شعورهم بأن هذا الكون عدوٌ لهم فيحاولون اكتشافه، ويسمون هذه الاكتشافات قهراً للطبيعة؛ لأنهم يظنون ويدركون أن الطبيعة عدو لهم.

أما المؤمن فإنه يدرك مع هذا الخوف الذي يصيب قلبه ويعرض له أحياناً أن الملجأ من الله عز وجل هو إليه؛ كما قال الله عز وجل في شأن الثلاثة الذين خلفوا: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة:118] ويقول سبحانه: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ الذاريات:50].

فالإنسان إذا خاف من شيء فر منه، إلا المسلم فإنه إذا خاف من الله عز وجل فر إليه، ولذلك يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبد الذي يخاف من المصائب، ويخاف من الأمراض، ويخاف من الأعراض، ويخاف من الموت، ويخاف مما بعد الموت، وما بعد الموت أشد من الموت وإن كان الموت أشد مما قبله، المؤمن الذي يخاف من ذلك كله لا مهرب له ولا مفر إلا عبر طريق واحد؛ وهو أن يتعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء ليعرفه الله عز وجل في حال الشدة.

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في النصيحة التي وجهها لحبر الأمة عبد الله بن عباس كما يرويها ابن عباس نفسه رضي الله عنه يقول: {كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك -وفي رواية تجده أمامك- تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد في مسنده.

ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء} فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الغرباء الذين تعرفوا إلى الله في الرخاء؛ وسلكوا سبيل الاستقامة والصلاح، ورضوا بالله عز وجل وإن سخط الناس، واستقاموا على طريق الإسلام والسنة؛ إن هؤلاء القوم لهم طوبى، وطوبى كما عرفها العلماء: هي الخير الكثير الطيب؛ والجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، فهو وعدٌ من الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بالخير الكثير الطيب للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، ويُصلحون ما أفسد الناس، وهم قومٌ صالحون قليلون في قوم سوءٍ كثيرون من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.

وهذا الوعد الذي جاء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم شهد الواقع والتاريخ بصدقه، فإننا نجد الغرباء الأولين الذين بدأ الإسلام على أيديهم أول مرة؛ نجد أن الله عز وجل كتب لهم من الخير الكثير ما يعرفه الخاص والعام، فهم حين كانوا في مكة والناس حولهم مشركون كثيرون وهم مسلمون قليلون؛ والناس يعادونهم ويرمونهم عن قوس واحدة، نجد أن الله عز وجل يقيض لهم من يحميهم وينصرهم.

أول الغرباء

ولا أدل على ذلك مما ورد في الرواية الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى ابن إسحاق وغيره- عن عبد الله بن عمرو بن العاص: {أن المشركين اجتمعوا في الحجر فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من شأن محمد؛ إنه قد سب آلهتنا وفرق جماعتنا وشتم أجدادنا وعاب ديننا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم كذلك إذ دخل النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت، حتى إذا مر بهم قالوا له بعض القول وغمزوه به؛ فنظر إليهم ثم مضى وتركهم.

حتى إذا مر بهم مرة أخرى قالوا له مثلما قالوا في المرة الأولى، فمضى صلى الله عليه وسلم وتركهم، حتى إذا كانوا في المرة الثالثة قالوا له مثلما قالوا في المرة الثانية، فأقبل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: تسمعون يا معشر قريش، والله لقد جئتكم بالذبح، قال عبد الله: فأخذت القوم كلمته، فوالله ما منهم رجل إلا وكأنما على رأسه طائرٌ واقع، حتى إن أشدهم أذية له ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم! انصرف راشداً، فوالله ما كنت جهولاً}.

الصحابة في مكة

وهكذا أصحابه رضي الله عنهم قيض الله لهم من يحميهم ومن يجيرهم ومن يعتق عبيدهم حتى أذن الله عز وجل لهم بالهجرة إلى الحبشة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم سلمة في المسند وغيره بسند صحيح قال لهم أو أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وأخبرهم بأن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، فخرجوا فلقوا من جوار النجاشي وعطفه وبره بهم ما أنساهم جور قريش وظلمها وإيذاءها.

فلما سمعت قريش بما لقوه في الحبشة أرسلت إليهم من يحاول أن يغير من رأي ملك الحبشة فيهم، ولكن هذين الرسولين باءا بالخيبة والفشل، وقال النجاشي للمسلمين: [[اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي -يعني آمنون- من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم]] وبقي المسلون في الحبشة في خير دار عند خير جار، ثم قيض الله عز وجل لهم بعد ذلك من إسلام الأنصار واستقبالهم وإيوائهم ما لا يخفى على أحد، وكان هذا جزءاً من الخير الكثير الطيب الذي وعد النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء في هذا الحديث.

السلف الصالح

ثم إن الغرباء بعد ذلك على مدار التاريخ يلقون من العناية والتكريم ما لا يخطر على بال، وأضرب لكم مثلاً واحداً بما لقيه رجل من الغرباء ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي كان إماماً في العلم والعمل والدعوة والجهاد، فقد ذكر مترجموه من سيرته: أن قازان ملك التتر لما جاء بجيشه وجنده إلى بلاد الإسلام، وعسكر قريباً من دمشق وأراد أن يغير عليها، ذهب العلماء إليه ومعهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فلما دخلوا عليه قام شيخ الإسلام وتكلم أمامه بكلام شديد، وقال له: "يا قازان إن أجدادك الكفار المشركين لم يصيبوا المسلمين من الضر والضرر والأذى مثلما حاولت أنت، مع أنهم كانوا مشركين وأنت تدعي أنك مسلم" فقال له قازان: أيها الشيخ ادعُ لي فرفع شيخ الإسلام ابن تيميةرحمه الله يديه وقال: "اللهم إن كان عبدك هذا جاء مجاهداً في سبيلك لنصرة دينك وإعلاء كلمتك فأيده وانصره، وإن جاء محاداً لك مؤذياً لعبادك المؤمنين فأهلكه واقض عليه وعلى جنده"، وظل شيخ الإسلام يدعو على هذا الطاغية، وهذا الطاغية قد رفع يديه إلى السماء يؤمن على دعاء شيخ الإسلام، ثم خرج شيخ الإسلام مع العلماء من عنده، فقال العلماء له: إننا لا نريد أن نصحبك؛ لأننا لا نأمن أن يرسل إليك هذه الطاغية في الطريق من يقتلك، فقال الشيخ: وأنا لا أريد أن أصحبكم، فذهب هو في طريق وذهب بقيتهم في طريقٍ آخر، أما هو رحمه الله فلم يصل إلى بيته في دمشق إلا في وسط كوكبة من الجنود الذين ذهبوا من جيش التتر ليحرسوه، أما بقيتهم فإن أحدهم يقول: أما نحن فسلط علينا مجموعة من العيارين فشلحونا وآذونا وأخذوا ما بأيدينا.

فهذا أيضا نموذج من الخير الطيب والجزاء الحسن في الدنيا الذي أعده الله تعالى للغرباء.

ولا أدل على ذلك مما ورد في الرواية الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى ابن إسحاق وغيره- عن عبد الله بن عمرو بن العاص: {أن المشركين اجتمعوا في الحجر فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من شأن محمد؛ إنه قد سب آلهتنا وفرق جماعتنا وشتم أجدادنا وعاب ديننا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم كذلك إذ دخل النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت، حتى إذا مر بهم قالوا له بعض القول وغمزوه به؛ فنظر إليهم ثم مضى وتركهم.

حتى إذا مر بهم مرة أخرى قالوا له مثلما قالوا في المرة الأولى، فمضى صلى الله عليه وسلم وتركهم، حتى إذا كانوا في المرة الثالثة قالوا له مثلما قالوا في المرة الثانية، فأقبل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: تسمعون يا معشر قريش، والله لقد جئتكم بالذبح، قال عبد الله: فأخذت القوم كلمته، فوالله ما منهم رجل إلا وكأنما على رأسه طائرٌ واقع، حتى إن أشدهم أذية له ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم! انصرف راشداً، فوالله ما كنت جهولاً}.

وهكذا أصحابه رضي الله عنهم قيض الله لهم من يحميهم ومن يجيرهم ومن يعتق عبيدهم حتى أذن الله عز وجل لهم بالهجرة إلى الحبشة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم سلمة في المسند وغيره بسند صحيح قال لهم أو أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وأخبرهم بأن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، فخرجوا فلقوا من جوار النجاشي وعطفه وبره بهم ما أنساهم جور قريش وظلمها وإيذاءها.

فلما سمعت قريش بما لقوه في الحبشة أرسلت إليهم من يحاول أن يغير من رأي ملك الحبشة فيهم، ولكن هذين الرسولين باءا بالخيبة والفشل، وقال النجاشي للمسلمين: [[اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي -يعني آمنون- من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم]] وبقي المسلون في الحبشة في خير دار عند خير جار، ثم قيض الله عز وجل لهم بعد ذلك من إسلام الأنصار واستقبالهم وإيوائهم ما لا يخفى على أحد، وكان هذا جزءاً من الخير الكثير الطيب الذي وعد النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء في هذا الحديث.

ثم إن الغرباء بعد ذلك على مدار التاريخ يلقون من العناية والتكريم ما لا يخطر على بال، وأضرب لكم مثلاً واحداً بما لقيه رجل من الغرباء ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي كان إماماً في العلم والعمل والدعوة والجهاد، فقد ذكر مترجموه من سيرته: أن قازان ملك التتر لما جاء بجيشه وجنده إلى بلاد الإسلام، وعسكر قريباً من دمشق وأراد أن يغير عليها، ذهب العلماء إليه ومعهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فلما دخلوا عليه قام شيخ الإسلام وتكلم أمامه بكلام شديد، وقال له: "يا قازان إن أجدادك الكفار المشركين لم يصيبوا المسلمين من الضر والضرر والأذى مثلما حاولت أنت، مع أنهم كانوا مشركين وأنت تدعي أنك مسلم" فقال له قازان: أيها الشيخ ادعُ لي فرفع شيخ الإسلام ابن تيميةرحمه الله يديه وقال: "اللهم إن كان عبدك هذا جاء مجاهداً في سبيلك لنصرة دينك وإعلاء كلمتك فأيده وانصره، وإن جاء محاداً لك مؤذياً لعبادك المؤمنين فأهلكه واقض عليه وعلى جنده"، وظل شيخ الإسلام يدعو على هذا الطاغية، وهذا الطاغية قد رفع يديه إلى السماء يؤمن على دعاء شيخ الإسلام، ثم خرج شيخ الإسلام مع العلماء من عنده، فقال العلماء له: إننا لا نريد أن نصحبك؛ لأننا لا نأمن أن يرسل إليك هذه الطاغية في الطريق من يقتلك، فقال الشيخ: وأنا لا أريد أن أصحبكم، فذهب هو في طريق وذهب بقيتهم في طريقٍ آخر، أما هو رحمه الله فلم يصل إلى بيته في دمشق إلا في وسط كوكبة من الجنود الذين ذهبوا من جيش التتر ليحرسوه، أما بقيتهم فإن أحدهم يقول: أما نحن فسلط علينا مجموعة من العيارين فشلحونا وآذونا وأخذوا ما بأيدينا.

فهذا أيضا نموذج من الخير الطيب والجزاء الحسن في الدنيا الذي أعده الله تعالى للغرباء.

أيها الإخوة: إن العبد الذي يشعر بالخوف ويحتاج إلى الأمن في هذه الدار، ويدرك أنه لا مفر من الله عز وجل إلا إليه؛ يحتاج إلى أن يكون من الغرباء الذين تعرفوا إلى الله عز وجل في الرخاء فعرفهم في الشدة، فيا ترى ما معنى التعرف إلى الله عز وجل في الرخاء؟ إن التعرف إلى الله يشمل ثلاثة أمور:

أولاً: التعرف إلى الله عز وجل بالإقرار به والإيمان به ومعرفة أنه لا يتصرف في هذه الأكوان ولا يديرها إلا الله عز وجل، وبهذا يخرج الدهريون والشيوعيون والملحدون والصوفيون وغيرهم ممن لا يؤمن بالله أو ممن يعتقد أن هناك مدبراً للكون مع الله عز وجل.

ثانياً: التوجه إلى الله عز وجل بالعبادة وصرف كل أنواعها إليه سبحانه لا إلى غيره، فلا يبقى الإنسان بدون معبود كما هو شأن كثيرٍ من الضالين والمنحرفين الذين لا يجدون شيئاً يعبدونه، حيث لم تتوجه قلوبهم إلى عبادة الله عز وجل، فمنهم من يعبد الدنيا، ومنهم من يعبد الكرة، ومنهم من يعبد معشوقته، ومنهم من يعبد المال، ومنهم من يعبد غيرها من الأشياء التي لا يدركون أنهم قد عبدوها وهم في الحقيقة قد عبدوها وتألهت قلوبهم إليها.

فلا بد من العبادة، ثم لا بد من العبادة لله عز وجل وحده لا إلى غيره، وهذا هو معنى التوحيد، وهو معنى كلمه لا إله إلا الله: أي لا معبود بحق إلا الله عز وجل، ويخرج بهذا من لا يدركون أنهم عابدون، كما يخرج به من يعبدون غير الله كمن يعبدون الملائكة أو يعبدون الأنبياء أو يعبدون الأولياء أو يعبدون غيرهم من المقربين أو سواهم، فلا بد من التقرب إلى الله عز وجل، والتعرف إليه بالأعمال الصالحة، وكلما زادت عبادة الإنسان وكثرت أعماله الصالحة كان أكثر تعرفاً إلى الله عز وجل، وأكثر قرباً منه، وضمن أن يكون الله عز وجل في الشدائد معه في الدنيا والآخرة.

ثالثاً: التعرف إلى الله بأسمائه وصفاته، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة يقول صلى الله عليه وسلم: {إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر} والله عز وجل له أسماء كثيرة غير محصورة، ولذلك فإن الدعاء المأثور كما نردده في دعاء القنوت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنـزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك} والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث الشفاعة الطويل أنه صلى الله عليه وسلم: {يخر ساجداً تحت العرش فيفتح الله عليه فيحمده بمحامد يعلمه إياها ذلك الوقت؛ لا يعلمها الآن} أي: وقت حياته صلى الله عليه وسلم.

فأسماء الله لا يحصيها إلا الله ولكن من هذه الأسماء تسعة وتسعون اسماً لها خاصية هي أن من أحصاها دخل الجنة، فلننظر ما معنى الإحصاء؟

إن الإحصاء يشمل أموراً عديدة:

- يشمل أن تعرف هذه الأسماء، فمن كان لا يعرف هذه الأسماء فهو لم يحصها، فعليك أن تبحث عن كتاب من الكتب التي عنيت بإحصاء أسماء الله الحسنى وتحفظ هذه الأسماء عن ظهر قلب.

- ثم عليك أن تعرف ما معنى هذه الأسماء، فإن لكل اسم منها معنىً مراداً منها تدل عليه لغة العرب، فعليك أن تتعرف على هذا المعنى.

- ثم إن كل اسم منها يدل على صفة من صفات الله عز وجل، فعليك أن تتعرف على الصفة التي يدل عليها هذا الاسم.

ثم عليك أن تُقرِّ بهذه الأسماء وبالصفات التي دلت عليها.

ثم عليك أن تمرر هذه المعاني على قلبك وتحرص على تذكرها بكرة وعشياً، وتعمل بمقتضاها من فعل الطاعات وترك المعاصي.

فإذا فعلت ذلك فإنك حينئذ قد أحصيت هذه الأسماء وقد فزت بالبشارة النبوية، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: {من أحصاها دخل الجنة }.

إذاً: التعرف إلى الله عز وجل يكون بثلاثة أمور:

أولاً: بالإقرار به وتوحيده.

ثانياً: بصرف العبادة إليه والتقرب إليه بالأعمال الصالحة.

ثالثاً: بمعرفة أسمائه وصفاته والعمل بمقتضاها من فعل الطاعة وترك المعصية.

فإذا تعرفت إلى الله عز وجل بهذه الأشياء في حال الرخاء، كان الله عز وجل لك في الشدة، سواء الشدائد التي تعرض لك في الدنيا من الفقر أو المرض أو غيرها، أو في الشدة التي تعرض لك لا محالة عند نـزول الموت، أو في الشدة التي تعرض لك في قبرك أو في الشدائد التي تواجهك بعد اليوم في يوم القيامة.

وهذا وعد صادق من الله عز وجل على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.

فأولاً: الإنسان يحتاج إلى الثبات على دينه، وإلى أن يكون الله عز وجل موفقاً له في ذلك ليحفظه من الشهوات ومن الشبهات.

فإذا عرفت الله عز وجل في الرخاء عرفك فيما يعرض لك في شئون دينك، فحفظك من الشبهات التي قد تصدك عن سبيل الله، ولذلك يذكر الله عز وجل في كتابه قصة ذلك الرجل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، يقول تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176].

وإنك تجد كثيراً من الناس تعرض لهم في فترة من فترات عمرهم -خاصةً في فترة الشباب- بعض الشبهات والوساوس التي تتعلق بالألوهية أو بالنبوة أو بغيرها من قضايا الاعتقاد، فإذا كان الواحد منهم صادقاً في اللجوء إلى الله عز وجل فسرعان ما تزول هذه الشبهة وتغادر قلبه، حتى ولو لم يقرأ في الكتب ولو لم يجد حلاً لما أشكل عليه من القضايا والمشكلات والشبهات، وإنما يدفع الله عز وجل عنه التفكير في هذا الأمر ويغادره إلى غير رجعة ويصبح مطمئن القلب بالإيمان.

وتجد آخرين مهما أوتوا من العقل والعلم؛ ومهما قرءوا وسمعوا تجدهم يعانون من ألوان الشبهات بسبب ضعف يقينهم، وضعفت عبادتهم، وضعف تعرفهم إلى الله عز وجل في الرخاء فلم يتعرف عليهم في الشدة.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5003 استماع
حديث الهجرة 4962 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4140 استماع
مصير المترفين 4075 استماع
وقفات مع سورة ق 3968 استماع
مقياس الربح والخسارة 3921 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3860 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3817 استماع