( فصول من سيرة الغائبين ) |
الخريف : ( فصل الحصار ) |
يأتي الخريفُ كأنَّهُ نايٌ على شُبَّاكِ ذاكرتي ، فأدنو من تفاصيلِ الحكايةِ : |
سوفَ أذكرُ |
أنَّنا كنَّا هناكَ على انتظارِ الليلِ يُنبئنا بشيءٍ غامضٍ ، |
أمّي - بكاملِ حزنِها عند المغيبِ - تَهزُّ أصغرنا ، |
وجدي ينهرُ الذعرَ المرابِطَ في عيوني : نَمْ صغيري ، |
و اتركِ الأبوابَ مشرعةً علينا ، ربَّما عادوا غداً بقميصهِ المبتلِّ |
أذكرُ أنَّهمْ شَتموا النساءَ وفتَّشوا حتّى الدفاتِرَ |
... كُنتُ أعدَدتُ الوظيفةَ كي أفاجِئَ صاحبي |
في حِصَّةِ التاريخِ ، ... |
أعدَدتُ الوظيفةَ غيرَ أنَّي لم أُجِبْ : |
- هلْ كانَ لِصَّاً والدي ...؟! |
* * * * |
الربيع : ( فصل الوداع ) |
يأتي الربيعُ ... |
و هكذا دونَ انتظارٍ تبلغُ الفتياتُ فِتنتها ، |
فلا نيسانَ يغويها ، و لا ريحُ اللواقِحِ تُنضِجُ التفاحَ |
من زهرٍ تَفَتَّحَ في الثيابْ |
يأتي الربيعُ ... |
و هكذا دونَ انتظارٍ تكبرُ الأخواتُ كالطعناتِ فينا حينَ تدهمها الأنوثَةُ ثُمَّ تحلمُ بالغريبِ |
يجيءُ ممتطياً حصاناً ، يعتلي درجَ الرياحِ كغيمةً بيضاءَ يعلو .. |
ثمَّ يعلو |
مثلَ عصفورٍ سينقرُ بابها المنسيَّ ، تصحو ملءَ دهشتها و تصغي للصهيلِ ؛ كأنَّ إيقاعاً يرنُّ |
على رخامِ الروحِ يرعِشها فتوغِلُ في النضوجِ |
لتبلغَ العرسَ / الغيابْ |
لكأنَّني أمٌّ يُباغِتها الصَباحُ بلا شِجارٍ بينَهُنَّ |
على الملاعِقِ أو كؤوسِ الشايِ ،... |
هلْ صَحَتِ المدينةُ بانتظارِ البابِ يُشرَعُ |
كي تمرَّ السبعُ تفتَتِحُ الصباحَ ؟ |
و هلْ صَحَتْ أمّي لتُشرِعَ دمعها للذكرياتِ ؟ |
تُقَبِّلُ الصورَ القديمةَ في زوايا البيتِ ،... |
وحدي بعدهُنَّ أرَتِّبُ الغرفَ الحزينَةَ و الوسائِدَ ، |
لن تفاجِئني التواقيعُ القديمةُ ، لا... |
و لا بُقَعُ الطعامِ على الدفاتِرِ |
هل صَحوتُ ؟ |
لكي تساومني الصغيرةُ حولَ ( ليراتٍ ) |
لتحملَ في الصباحِ رسائِلي |
أو زَهْرَتَي فُلٍّ سلاماً لابنةِ الجيرانِ |
هل صَحَتِ المدينةُ بعدهُنَّ ؟ |
و هل صحونا ؟ كي نروِّضَ عمرنا الباقي |
على قَدَرِ الفجيعةِ حينَ نَحلمُ بازدِحامِ الغائبينَ يباغتونَ شرودنا ... |
البيتُ بعدَ الأهلِ أوسعُ ، |
غيرَ أنَّ البيتَ أضيقُ |
لا أرى في البيتِ بيتاً ، |
لا أرى ... إلا اليبابْ |
يأتي الربيعُ بلا ربيعٍ بعدهنَّ |
و ها أنا أرعى ظلالَ الذكرياتِ تمرُّ في وضَحِ الخرابْ |
إلى أخواتي الحاضرات الغائبات |
* * * * |
الشتاء : ( فصل البكاء الطويل ) |
ستفيقُ أمّي |
كلَّما وخزتْ خُطا الغرباءِ غفوتها ، |
تُغادِرُ حلمها ، |
وتَعُدُّ أحذيتي لتُدْرِكَ أنَّني لمّا أَعُدْ من سهرةِ الأصحابِ بَعْدُ ... |
صريرُ بابي دائماً يكفي لتنهضَ |
كي تقاسمني الصباحَ بكأسِ شايٍ |
ثمَّ ترشوني بقُبلتها |
لعلّي أهتدي للبيتِ قبلَ نُعاسِها ... |
هي دائماً تغفو على قَلَقٍ |
و تخشى اِِبنةَ الجيرانِ ، تزعُمُ أنَّني ما زلتُ غَضَّاً كالورودِ ، |
لعلَّها كانتْ تَغُضُّ الطرفَ عنَ شوكي الموزَّعِ في جهاتِ القلبِ إنْ حلَّ المساءُ و لمْ أعُدْ |
كي لا يؤنِّبني أبي ... |
أمّي تُتِمُّ شتاءها قربَ النوافذِ ، |
ترقبُ الطرقَ التي ستعيدني فجراً إليها مثقلاً بالحزنِ و الأمطارِ من فرطِ التسكُّعِ تحتَ نافذةِ التي كانتْ تبادلني الرسائِلَ ثمَّ أنستها الأساوِرُ موعدي قبلَ الصباحِ بنجمةٍ ، |
ستفيقُ أمّي ... |
مرَّةً أخرى تُعِدُّ الشايَ و القبلاتِ |
و القصَصَ التي تروى على سمعِ المقاعِدِ بينما أغفو لأكملَ جولتي تحتَ النوافِذِ خلسةً عنّي و عنها ... |
وحدها بعدي تَصُبُّ الشايَ |
ترشِفُ كأسها / كأسي |
و تنسى زهرةَ العمرِ المراقِ على النوافذِ بانتظاري دونَ جدوى |
أيَّة امرأةٍ ستحتملُ انتظاري نصفَ عمرٍ |
ثمَّ تغفرُ عودتي دونَ اعتذارٍ مسرفٍ ؟ |
هي دائماً تدري بأنّي سوفَ أكذِبُ حينَ أرجعُ في الصباحِ لكي تصدِّقني ، |
و تدرِكُ أنَّها ستُعِدُّ لي الشايَ الذي من عادتي الإغراقُ في الأحلامِ قبلَ نضوجهِ ... |
... أمّي تُتِمُّ شتاءها قربَ النوافِذِ بانتظاري ، |
بينما أدنو و أنأى |
تحتَ نافِذةِ التي رَحَلتْ ، أُمارِسُ بَعدها قهري |
و أمتَدِحُ انكساري |
* * * * |
فصل الانتظار : ( فصل ليلى ) |
أتمَمْتُ عاماً في مديحِ الحزنِ بعدكِ ، ... |
في مساءاتِ انتظارِكِ كنتُ أكبرُ كلَّ يومٍ |
عامَ حزنٍ أو يزيدُ |
و كنتُ أفترشُ الرسائِلَ - بانتظاركِ - كي أنامَ بلا انكسارٍ ، واثقاً بالحلمِ يختَصِرُ المسافةَ بينَ طيفكِ و اشتياقي |
موصَدٌ بابي ، و ريحكِ من ثقوبِ الروحِ تنفذُ كي تؤجِّجَ جمرتي |
و لأنَّني رجلٌ سأبكي ... |
لا أرى في الليلِ بعدكِ ما يؤجِّجُ شهوةَ الكلماتِ ، لكنَّ القصيدةَ سوفَ تأتي في غيابكِ حينَ أبكي مثلَ طفلٍ متعبٍ ضلَّ الطريقَ |
أقولُ : قاصيةٌ قطوفكِ |
ثمَّ أبكي |
كلَّما اسَّاقطتُ فجراً من نخيلِ الذكرياتِ |
و ضاءني أمسي سأبكي |
مالحٌ طعمُ القصيدةِ في غيابكِ مثلَ دمعي ، مالحٌ ... |
و لأنَّني رجلٌ سأبكي ... |
* * * * |