تَرامى اللَيلُ كَالهَمِّ الثَقيلِ
مدة
قراءة القصيدة :
4 دقائق
.
تَرامى اللَيلُ كَالهَمِّ الثَقيلِ | يَجُرُّ ذُيولَ مِعطَفهِ الطَويلِ |
وَيُبرِزُ في مَشارِفهِ نُجوماً | بِلَونٍ بُرتُقالِيٍّ ضَئيلِ |
وَكانَت زوق ميكائيل تُصغي | الى هَمسِ النَياسم في الحُقولِ |
فَتَبسِمُ عَن كَواكِبها النَحيلَه | وَتَحلمُ في جَواذِبِها الجَميلَة |
بِعَهدٍ مَرَّ في الدُنيا جَميلِ | |
وَكانَت قُبَّةُ الجَرَس المُقيمَه | عَلى عَمَدَي كَنيسَتُها القَديمَه |
تَقَطَّعُ في السَماءِ وَقد تَرامى | عَلَيها النورُ أَفلاذاً سَقيمَه |
كَطَيفٍ يَخفر الأَمواتِ لَيلاً | وَيَبقى ساهِراً سَهَرَ الأُمومه |
وَكانَ اللَيلُ مُنفَطِرَ الشُعورِ | أَحَسَّ لَهيبَ سُكّانِ القُبورِ |
فَلَطَّفَ في مَعابِرِهِ نَسيمَه | |
وَكانَت أَغصُنُ الدَوح القَديمِ | يَهزُّ رُؤوسَها مَرُّ النَسيمِ |
فَيُسمَع في الدُجى مِنها حَفيفٌ | كَصَوتِ الوَخزِ في قَلبٍ أَثيمِ |
وَفي الاِكواخِ أَقباسٌ ضِعافٌ | كَأَخيِلَةِ الكَواكِبِ في الأَديمِ |
تُصَعِّدُ في نَوافِذها الصَغيرَه | زَفيراً من أَشعَّتها الحَقيرَه |
كَأَنَّ بزيتها بَعضَ الهُمومِ | |
وَفي الأَبعادِ كان يُرى الخَليجُ | تَمجُّ مِياهُهُ نوراً يَموجُ |
كَلَوحٍ أَسوَدٍ مُلقىً عَلَيهِ | إِطارٌ فيهِ من ذَهَبٍ نَسيجُ |
تُدبِّجهُ مَصابيحٌ وَزُهرٌ | لَها في الماءِ مَنظَرُها البَهيجُ |
وَأَضواءُ النُجوم عَلى الشَواطِىءُ | إِذا اِمتَزَجَت بِأَضواءِ المرافىء |
يَكونُ مِنَ الخَيالِ بِها مَزيجُ | |
دَعِ الأَبعادَ في اللَيلِ الجَميلِ | تَنَم سَكرى مَعَ النورِ الضَئيلِ |
وَخَلِّ أَنامِلَ النَسَماتِ تَلعَب | كَما شاءَت بِأَوراقِ الحُقولِ |
وَدَع قَطرَ النَدى المَخمورَ يَسقُط | عَلى جَسَد الجَنائِنِ وَالطلولِ |
وَهَيّا بي نَلِج قَصراً صَغيرا | تَرى المِصباحَ يَملاُوه شُعورا |
رَسا في الزَوق من عَهدِ طَويلِ | |
فَتُبصِرَ إِن وَلَجتَ فَتىً كَئيبا | مِنَ الإِحساسِ يوشِكُ أَن يَذوبا |
إِذا أَمعَنتَ فيه رَأَيتَ جِسماً | يَفور كَأَنَّ في دَمِهِ لَهيبا |
لَهُ قَلبٌ يُرى في كُلِّ قَلبٍ | كَأَنَّ اللَهَ ذَرَّ بِهِ قُلوبا |
فَتىً كَالفَجرِ أَلواناً وَعُمرا | إِذا أَبصَرتَه أَبصَرتَ فَجرا |
يَمُدُّ جَمالُهُ ظِلّا غَريبا | |
وَإِن أَصغَيتَ تَسمَعُهُ يَقولُ | لِوالِدَةٍ أَلَمَّ بِها النُحولُ |
لِأُمٍّ فارَقَت زوجاً حَبيباً | طَواهُ من الرَدى لَيلٌ ثَقيلُ |
أُحِسُّ لَها اِضطِّراباً في فُؤادي | وَدَمعاً في حَناياهُ يَجولُ |
وَما أَحسَستُ امسِ بِمِثلِ هذا | فَاِمسي كان لا ادري لِماذا |
جَميلاً كُلُّ ما فيهِ جَميلُ | |
أَجل يا أُمِّ صِرتُ فَتىً شَقيّا | يَكادُ اليَأسُ يُطفىءُ مُقلَتَيّا |
فَأَينَ مَضَت لَيالِيَّ الخَوالي | وَقَلبٌ كان في الماضي خَلِيّا |
أَرى غَلواءَ تُعرِضُ عن هُيامي | وَيَكتُمُ قَلبُها سِرّاً خَفِيّا |
وَتَسمَعُها تَقولُ لَهُ شَفيقُ | بُنَيَّ لَقَد أَضلَّتكَ الطَريقَ |
فَهَل نَبَّهت قَلبَكَ يا بُنَيّا | |
جَميلٌ يا وَحيدي أَن تُحبّا | وَتَرفَعَ لِلهَوى عَيناً وَقَلبا |
وَتَسمَعَ مِنهُ أَنغاماً عِذاباً | وَتَشرَب من يَدَيهِ الماءَ عَذباء |
لَقَد أَحسَستُ قَبلَكَ بِاِضطِرابٍ | وَقاسَيتُ الهَوى سَهلا وَصَعبا |
وَلكِن لَيسَ يَندَمُ مَن تَأَنّى | فَغلوا يا اِبنِ أَكبَرُ مِنكَ سِنّا |
اِذا رَضِيَ الهَوى فَالعُمرُ يَأبى | |
تَأَنَّ فَسَوفَ تَهوى مَن تُريدُ | وَتَهواكَ العَذارى وَالوُرودُ |
فَمِثلُكَ لا يُجاوِرُهُ قُنوطٌ | وَمِلءُ شَبابِهِ عَقلٌ رَشيدُ |
أَمامك يا اِبن أَعوامٌ طِوالٌ | وَمن زَهَرِ الهَوى عَدَدٌ عَديدُ |
تَأَنَّ فَسَوفَ تَقطِفُ مِنهُ زَهرَه | تَكونُ أَشَدَّ من غَلواءَ نُضرَه |
يُبارِكُ عِطرَها العَهدُ الجَديدُ | |
فَيُطلِقُ زَفرَةَ التَمِسِ الكَئيبِ | وَيَغرَقُ في دُجى فِكرٍ غَريبِ |
وَيَذهَبُ لا يُجيبُ وَفي هَواهُ | لَظى شَكٍّ أَشَدُّ مِنَ اللَهيبِ |
وَكَيفَ يُجيبُ أُمّا جَفَّ فيها | عُصارُ الحُبِّ في عَهد الغُروبِ |
أَيا أُمي اِصرِفي ذي الكَأسَ عَنّي | فَما في الحُبِّ شَأنٌ لِلتَأَنّي |
وَما لِلعُمر شَأنٌ في القُلوبِ | |
وَيَذهبُ لا يُجيبُ وَفي هَواهُ | من الاِشجانِ ما يُضني قِواهُ |
دَعي يا أُمِّ زَهرَ الناسَ يَبسِم | وَيَنشَق في الوَرى غَيري شَذاهُ |
فَلي في جَنَّةِ الاِشواكِ زَهرٌ | غَريبُ اللَونِ لا أَرضى سِواهُ |