1- ليلة في لندن |
كما ينسل نور خائف من فرجة الباب |
إلى الظلماء في غرفة |
سمعت هتافه المجروح يعبر نحوي الشرفه |
ليرفع من سماوة لندن الليل المطل بلونه الكابي |
على الطرقات ترقد في دثار الثلج ملتفه |
و أمس سمعت في إيران صوت الديك في الفجر |
و من أفق المنائر في الكويت وزرقه البحر |
أهاب فرش جفني بالنعاس ( رنين أكواب |
بماء البصرة الرقراق تملأ ثم تسقيني ) |
نداء راح ينثره المؤذن أطفيء الفانوس رف ضياؤه رفه |
وبعثره الظلام |
و ليلي الأواه في بيروت يحييني |
لأبصر فيه وجه الموت راح يذيبه نبع من اللهفه |
تدفق من فؤاد البلبل المسكوب بين غصون لبلاب |
ليال من عذاب من سنام لست أنساها |
غريبا كنت حتى حين أحلم لست في جيكور |
و لا بغداد أمشي في صحارى قلبي المسعور |
يريد الماء فيها ماء أين الماء و هي تريه أفواها |
على آفاقها الربداء ظمآى تشرب الديجور |
فلا تروى أأقصى العمر في صحراء في ليل من العطش |
أفتش عن عيون الماء عن إشراقه الغبش |
كأعمى نال منه السكر صاح ورفرفت كفاه بين مساند الماخور |
ليبحث عن رفيق أين جاري أين داري أين أواها |
أميرتي التي كانت تناولني كؤوس النور |
فيبصر قلبي الدنيا و يلقاها |
كأن الصبح أشرق في العراق و تعبر الرؤيا |
بحارا بي و تطوي ألف درب في الدجى تاها |
تراجع عالم و أطل ثان عالم يحيا |
على الأقمار تولد ثم تكمل ثم تندثر |
و ما لبس الجديد بغير يوم العيد يدخر |
ويجمع ثم ينفق ثم يضحك و هو يفتخر |
بأن الله يرزق حين يرزق هكذا الدنيا |
شتاء ثم صيف ليس في جيكور محتكر |
و لا فيها مصارف أو جرائد ليل كوريا |
يرى شفقا من النيرا |
فالنيران فيها حين تستعر |
تضيء لحى الشيوخ يحدثون و أعين النسوه |
تحدق في الطعام و ترقب الأطفال في نشوة |
أعدني يا إله الشرق و الصحراء و النخل |
إلى أيامي الحلوة |
إلى داري إلى غيلان ألثمه إلى أهلي |
2- ليلة في باريس |
و ذهبت فانسحب الضياء |
أحسست بالليل الشتائي الحزين و بالبكاء |
ينثال كالشلال من أفق تحطمه الغيوم |
أحسست وخز الليل في باريس و اختنق الهواء |
بالقهقهات من البغايا آه ترتعش النجوم |
منها طبلور الثريا الملطخ بالدماء |
في حانة لمدى السكارى في جوانبها انتضاء |
لم يبق منك سوى عبير |
يبكي و غير صدى الوداع إلى اللقاء |
و تركت لي شفقا من الزهرات جمعها إناء |
كالأنجم الزرقاء و الحمراء في أفق به حلم الصغير |
أرجعن لي عمر الطفوله يا محارا في غدير |
تتفارع الأقداح فيه ترن أجراس كثار |
خوخ و أعناب ورمان و تمتليء الجرار |
عند الغروب هو الخريف و نحن نسمر حول نار |
و كمستفيق في العراء |
من حلمه هو شهريار و تلمس الكف الخواء |
ذهب التراب ورن في الليل النباح أو العواء |
عانقت كفك باليدين إلى اللقاء |
إلى اللقاء |
و ذهبت فانحب الضياء |
لو صح وعدك يا صديقه |
لو صح و عدك آه لانبعثت وفيقه |
من قبرها و لعاد عمري في السنين إلى الوراء |
تأتين أنت إلى العراق |
أمد من قلبي طريقة |
فامشي عليه كأنما هبطت عليه من السماء |
عشتار فانفجر الربيع لها و برعمت الغصون |
توت و دفلى و النخيل بطلعه عبق الهواء |
و هو الأصيل و تلك دجلة |
و النواتي الخفاف يرددن |
يا ليتني نجم الصباح |
آه لأسقط يا حبيبي إذ تنام على الغطاء |
أعتل بالبرد ارتجفت فلفني برد الهواء |
و هو الأصيل و أنت في جيكور تجتذب الرياح |
منك العباءة فاخلعيها |
ليس يدثر الضياء |
يتماوج البلم النحيل بنا فتنتثر النجوم |
من رفة المجداف كالأسماك تغطس أو تعوم |
و يحار بين الضفتين بنا كأنا منه في أبد الزمان |
زمن و لا ماض يعود له و لا غد كي يسير |
إليه تنطفيء النجوم و نحن نحن العاشقان |
و ذهبت فانسحب الضياء |
لم يبق منك سوى عبير |
يبكي و غير صدى الوداع إلى اللقاء |
و تركت لي شفقا من الزهرات جمعها إناء |
3- ليلة في العراق |
و ألهب كل ألواح الزجاج الزرق في الظلماء |
فنور غرفتي إيماض برق ثم رش مدراج الأفق |
نثار من حطام الرعد فارتعشت له الأصداء |
وحف على الدجى غاب من الأمطار و الأزهار و الورق |
و كنت أصيح من أرقي |
و من مرضي أإريد الماء |
و تخنق صوتي الظمآن وهوهة الدجى و الماء |
و يعول من بعيد بوق سياره |
يجيء إلي عبر الماء في الحاره |
يجيء إلي من أعماق بحر شمسه الخضراء |
تنث على شراع السندباد أزاهر الشفق |
و كنت أصيح من أرقي |
ومن مرضي أريد الماء |
كأني هذا الكون حيث يسوطني العطش |
نواة حولها ارتجف العصير الحلوة في ثمره |
و يحرقها صداها |
و انتظرت سيغسل الغبشيلني شجرة |
تمص الماء يقرع في مداها النسغ |
و ألقى البرق أرقص ظل نافذتي على الغرفة |
فذكرني بماص من حياتي كله ألم |
طفولتي الشقيه و الصبي و شبابي المفجوع تضطرم |
مشاعري البريئة فيه كيف يجوع آلاف من الأطفال ملتفه |
بآلاف الخروق تعربد الريح الشتائية |
بها و أظل أحلم بالهوى و الشط و القمر |
و تزحم كل درب من دروبي هذه الخوذ الحديدية |
و تتبعني عيون الموت من زمر البنادق نز بالشرر |
كواها في دروب الجوع ألهث زائغ النظر |
و إذ يتمرد الإنسان في على العبودية |
أثور على الشيوعية |
و لكن البنادق ما تزال عيونها الغضبى |
تطاردني لأني غير ربي وحده لم أتخذ ربا |
و حين تنفست عند انحسار الليل عشتار |
تنفض جرح تموز المدمي تغسل التربا |
عن الجنبات منه و حين هد البغي ثوار |
أرحت جبيني المحموم |
على شباك داري أرقب الدربا |
تدفق بالجبال و بالعصي يشدها العار |
لتسحب أو تمزق جسم طفل ثغره المحروم |
من القبلات و الغنوات و الزاد |
ينادي دون صوت |
آه يا أمي عرفت الجوع و الآلام و الرعبا |
و لم أعرف من الدنيا سوى أيام أعياد |
فتحت العين فيها من رقادي لم أجد ثوبا |
جديدا أو نقودا لامعات تملأ الجيبا |
لأن أبي فقيرا كان |
يا لك ثورة تتأكل القلبا |
فأصرخ أيها الجبناء كفوا |
ثم تزحم دربي الخوذ الحديدية |
و تخنق من فم التنور في داري |
فألهث في دروب الجوع أطحن من حصاها ثم أعجنه |
و أقذفه إلى النار |
لأطعم منه زغبا يطلبون الزاد في قر العشيات الشتائية |
و يمضي بالأسى عامان ثم يهدني الداء |
تلاقفني الأسرة بين مستشفى و مستشفى |
و يعلكني الحديد |
و من دمي ملأ الأطباء |
قناني وزعوني في القناني تصبغ الصيفا |
دمائي و الشتاء |
و ذات صبح قيل إن الشر قد دحرا |
ودك معاقل الطاغوت في بغداد أبطال |
فقلت سأوقد القمرا |
سراجا عند بابي إنه ظفري أما قالوا |
بأن الشر قد دحرا |
و عدت إلى بلادي يا لنقلات إسعاف |
حمان جنازتي منمددا فيها أئن رأيت ( غيلانا ) |
يحدق بانتظاري في السماء وغيمها السافي |
و ما هو غير أسبوعين ممتلئين أحزانا |
و يفجأني النذير بأن أعواما من الحرمان و إلفاقه |
ترصد بي هنا في غابة الخوذ الحديدية |
غريق في عباب الموج تنحب عنده الغاقة |
تئن الريح في سعف النخيل عليه ترثيه |
قصائده الحزينة بين أوراق من الدفلى أو الصفصاف تبكيه |