الأسطورة الأزليّة
مدة
قراءة القصيدة :
9 دقائق
.
كان زمان ، لم يكن كائنا | و حالة ، ما برحت باقية |
ملّ بنو الإنسان أطوارهم | و برموا بالسقم و العافية |
فاستصرخوا خالقهم و اشتهوا | لو أنّه كوّنهم ثانية |
و بلغت أصواتهم عرشه | في ليلة مقمرة صافية |
فقال ، إنّي فاعل ما اشتهوا | لعلّ فيه حكمة خافية |
و شاهدوه هابطا من عل | فاحتشدوا في السّهل و الرّابيه |
من القرى القانعة الطاوية | و المدن الجامحة الغادية |
تألّبوا من كلّ صوب كما | تجتمع الأمطار في الساقيه |
يسابق الصّعلوك ربّ الغنى | و الأبله الباقعة الداهية |
و يدفع الشّيخ التوى عوده | وصار مثل الرمّة البالية |
فتى مضى الفجر و لمّا نزل | روعته في وجهه باقية |
و تزحم الحسناء ممكورة | خلابة كالروضة الحالية |
دميمة تشبه في قبحها | مدينة مهجورة عافية |
فقال ربّ العرش : ما خطبكم : | مابالكم صرخاتكم عالية ؟ |
هل أصبحت أرضكم عاقرا ، | أم غارت الأنجك في هاوية ؟ |
أم أقلع الماء فلا جدول ، | و ماتت الطير فلا شادية ؟ |
أم فقدت أعينكم نورها ، | أم غشيت أرواحكم غاشية ؟ |
أين الهوى ، إن لم يكن قد قضى | فكل جرح واجد آسية |
الفتى : | |
قال الفتى : يا ربّ إنّ الصّبا | مصدر أحزاني و آلامي |
ألبستنيه مونقا بعدما | أبلاه أخوالي و أعمامي |
و صار في مذهبهم عصره | فترة زلاّت و آثام |
فاختلفت حالي و حالاتهم | كأنّني في غير أقوامي |
وصرت كالجدول في فدفد | أو شاعر ما بين أصنام |
و الأخضر المورق في يابس | أو مثل صاح بين نوّام |
دنياهم دنياي ، لكنّما | أعلامهم ليست كأعلامي |
عندهم الروضة أشجارها | و الروض عندي الزهر النامي |
و الطير لحم ودم عندهم | و ليس عندي غير أنغام |
سكري بها أو بالندى و الشذى | و سكرهم بالخمر في الجام |
يسخر قلبي بلياليهم | و يسخر الدهر بأيّامي |
كأنّني جئت لتبكيتهم | كأنّما جاؤوا لإيلامي |
عبء على نفسي هذا الصّبا | ألجائش المستوفز الطامي |
يزرع حولي زهرات المنى | و شوكها في قلبي الدامي |
فان ؛ له كلّ فان هوى | فان ، و لا ينجو من الذام |
خذه ، و خذ قلبي و أحلامي | فإنّني أشقى بأحلامي |
ومر يمرّ الدهر في لحظة | كالطيف أو كالبرق قدّمي |
وازرع نجوم في لمّتي | فينجلي حندس أوهامي |
فأبصرُ الحكمة في ضوئه | إني إليها جائعٌ ظامي |
الشبح : | |
وجاء شيخ حائر واجف | مشتعل اللّمّة بالي الإهاب |
كأنّما زلزلة تحته | لما به رعشة واضطراب |
فصاح : يا ربّاه خذ حكمتي | واردد على عبدك عصر الشباب |
إنّ أماني الروح أزهارها | و إنّ روحي اليوم قفر يباب |
لا جدولٌ، لا بلبلٌ منشدٌ، | بلى، بها الوحشة والإكتئابْ |
تلك الأماني ، على كذبها ، | لم تكن اللّذّة فيها كذّاب |
زالت و ما زالت ؛ و إنّ الشّقا | أن تطمس الآي و يبقى الكتاب |
و تسلب السرحة أرواقها | و لم تزل أعراقها في التراب |
كنت غنيّا في زمان الصّبا | و كنت صفر الكفّ ، صفر الوطاب |
صحوت من جهلي فأبصرتني | كأنّني سفينة في العباب |
قيل لها ، في البحر كلّ المنى | فلم تجد فب البحر إلاّ الضّباب |
نأت عن الشّطّ و لم تقترب | شبرا من السرّ الذي في الحجاب |
و لو ترجّى أو به لاشتفت | لكنّما عزّ عليها الإياب |
مر تقف الأيّام عن سيرها | فإنّها تركض مثل السّحاب |
وضع أمامي ، لا ورائي ، المنى | وطوّل الدرب ، وزد في الصّعاب |
ما لذّتي بالماء أروى به | بل لذّتي بالعدو خلف السّراب |
الحسناء : | |
و قالت الحسناء : يا خالقي | و هبتني الحسن فأشقيتني |
وجهي سنّي مشرق ، و إنّما | مرعى عيون الخلق وجهي السني |
حظّي منه حظّ ورد الربى | من عطره الفوّاح و السوسن |
و مثل حظّ السرو من فيئه | و الطير من تغريدها المتقن |
و مثل حظّ النجم من نوره | في الحندس المعتكر الأدجن |
للقائل الفيء ، و السامع | التغريد ، و الزهرة للمجتني |
و النور للمدلج و المجتلي ، | و الدرّ للغائص و المقتني |
كم ريبة دبّت إلى مضجعي | مع الجمال الرائع الممكن |
إن عشقت نفسي فويل لها | و الويل لي إن رجل حبّني |
السمّ و الشوك و جمر الغضا | أهون من كاشحة الألسن |
كم تقتفيني نظرات الخنا | ويلي من خائنة الأعين |
لم يبق في روحي من موضع | يا ربّ لم يخدش و لم يطعن |
إنّ الغنى في الوجه لي آفة | فليت أنّي دمية ليتني ... |
الجارية : | |
و سكتت ؛ فصاحت الجارية | باكية من بؤسها شاكية : |
ذنبي إلى هذا الورى خلقتي | فهل أنا المجرمة الجانية ؟ |
إن أخطأ الخزّاف في جبله ال | طين فأيّ ذنب للآنية ؟ |
أليس من يسخر بي يزذري | بالقوّة الموجدة البارية ؟ |
لو كنت حسناء بلغت العلى | فللجمال الرتبة العالية |
فبات من أسجد قدّامه | صاغرة يسجد قدّمية |
فإنّني في ملإ ظالم | أحكامه جائرة قاسية |
ليس لذّات القبح من غافر | وفيه من يغفر للزّانية |
نفسي جزء منك ، يا خالقي | و إنّها عاقلة راقية |
أليس ظلما ، و هي بنت العلى ، | إن تك بالقبح إذن كاسية ؟ |
فليكن الحسن رداء لها | ترفل به ، أو فلتكن عارية |
الفقير | |
و أقبل الصّعلوك مسترحما | في مقلتيه شبح اليأس |
يصرخ يا ربّاه حتّى متى | تحكّم الموسر في نفسي ؟ |
و تضع التاج على رأسه | و تضع الشوك على رأسي ؟ |
و يشرب اللّذّات من كأسه | و أشرب الفصّات من كأسي |
و تنجلي الأنجم في ليله | ضاحكة كالغيد في عرس |
و يتوارى في نهري السنا | أو يتبدّى حانق الشّمس |
يا ربّ لا تنقله عن أنسه | و إنّما انقلني إلى الأنس |
فإن تشأ أن لا يذوق الهنا | قلبي فجرّدني من الحسّ |
لو لم يكن غيري في غبطة | ما شعرت روحي بالبؤس |
الغني : | |
و قال ذو الثّروة : ما أشتهي | لا أشتهي أنّي ذو ثروة |
أنفقت أيّامي على جمعها | و خلتني أدركت أمنيتي |
فاستعبدتني في زمان الصبا | و أوقرت بالهمّ شيخوختي |
قد ملكتني قبلما حزتها | و ملكتني و هي في حوزتي |
كنحلة أمسكها شهدها | من الجناحين فلم تفلت |
حسبتها تكسبني قوّة | فافترست قوّتها قوّتي |
جنت على نفسي و أحلامها | جناية الشوك على الوردة |
ينمو فتذوي فهي علّيقه | يحذرها الطائف بالروضة |
من قائل عنّي لمن خالني | أمرح من دنياي في جنّة : |
لا تنظر الأضواء في حجرتي | وانظر إلى الظلماء في مهجتي |
و لا يغرّنّك قصري فما | قصري سوى سجن لحرّيّتي |
أنّي في الصرح الرفيع الذرى | كطائر ، في قفص ، ميّت |
كم في عباب البحر من سابح | قد مات ظمآنا إلى قطرة |
موت الطوى شرّ و لكنّما | أفظع منه الموت بالتّخمة |
إن سهر العاشق من لوعة | أو سهر المحزون من كربه |
فالشوق كالحزن له آخر | و ينقضي في آخر المدّة |
أمّا أنا فقلقي دائم | ما دمت في مالي و في فضّتي |
و الخوف من كارثة لم تقع | أمصّ من كارثة حلّت |
كم من فقير مرّ بي ضاحكا | كأنّما يسخر من غصّتي |
رأيته بالأمس من كوّتي | فخلتني أنظر من هوّة |
و كنت كالحوت رأى موجة | ضاحكة ترقص كالطفله |
أو حيّة تدبّ في منجم | ترنو إلى فراشة حرّه |
قد اختفت ذاتي في بردتي | فما يرى الخلق سوى بردتي |
فهم إذا ما سلّموا سلّموا | على خيوط البرد و الحلّة |
ربّاه أطلق من عقال الغنى | روحي ، فإنّي منه في محنه |
وانزع من الدينار من قبضتي | صلابة الدينار من سحنتي |
و حوّل المال إلى راحة | و حوّل القصر إلى خيمة |
للأبله | |
و صرخ الأبله مستفسرا | ما القصد من خلقي كذا و المراد ؟ |
ألم يكن يكمل هذا الورى | إلاّ أوجدتني في فساد |
لي صورة النّاس و حاجاتهم | من مطعم أو مشرب أو رقاد |
لكنّ لبّي غير ألبابهم | فإنّه مكتنف بالسواد |
يعجزني إدراك ما أدركوا | كأنّ عقلي فحمة أو رماد |
إن كنت إنسانا فلم يا ترى | لست بادراكي كباقي العباد ؟ |
أولم أكن منهم فمرني أكن | جرادة أو أرنبا أو جواد |
فالندّ لا يعدم مع ندّه | ذريعة للسلم أو للجهاد |
لا تسخر النّملة من نملة | و ليس يزري بالقراد القراد |
أم أنت كالحقل على رغمه | ينمو مع الحنطة فيه القتاد |
للأديب : | |
وجاء بعد المستريب | الألمعي العبقريّ اللّبيب |
فقال : إنّي تائه حائر | أنا غريب في مكان غريب |
أبحث عن نفسي فلا أهتدي | و ليس يهديني إليها أريب |
أنا عليم حيث لا عالم | أنا لبيب عند غير اللّبيب |
لو أنّني كنت بلا فطنه | سرت و لم تكثر أمامي الدروب |
و كان عقلي كعقول الورى | و كان قلبي مثل باقي القلوب |
و صار عندي كالنجوم الورى | فلا عدوّ فيهم أو حبيب |
ولم أر في ضحكهم و البكا | شيئا سوى الضّحك و غير النّحيب |
و لم أسائل كوكبا طالعا | ما لك تبدو ، و لماذا تغيب |
و لم أقف في الروض عند الضحى | يذهلني لون و شكل و طيب |
و لم أقل ما كنت من قبلما | كنت ، و لا ما في سجلّ الغيوب |
ما العقل ، يا ربّ ، سوى محنة | لولاه لم تكتب عليّ الذنوب |
الخاتمة : | |
لمّا وعى الله شكايا الورى | قال لهم : كونوا كما تشتهون |
فاستبشر الشيخ و سرّ الفتى | و الكاعب الحسناء و الحيزبون |
... | |
لكنّهم لمّا اضمحلّ الدجى | لم يجدوا غير الذي كانا |
... | |
هم حدّدوا القبح فكان الجمال | و عرّفوا الخير فكان الطلاح |
و ليس من نقص و لا من كمال | فالشوك في التحقيق مثل الأقاح |
... | |
و ذرّة الرمل ككلّ الجبال | و كالذي عزّ الذي هانا |