دجلة في الخريف..
مدة
قراءة القصيدة :
4 دقائق
.
بكَرَ " الخريفُ " فراح يُوعِدهُ | أنْ سوفَ يُزْبِدُهُ ويُرْعِدُهُ |
وبَدَتْ من الأرماث ، عائمةً | فيه ، طلائعُ ما يُجَنِّدُه |
وكأنَّ ، من زَبَدِ الرِّمال على | أمواجه ، طِفْلاً يُهَدْهِده |
واستَثْقَلَ النوتيُّ مِجْذَفَه | بَرِماً بمِقبَضه يُجَدِّده |
وتحفَّزَتْ شُمُّ الجبال لهُ | بثُلوجها كِسفَاً تُهدِّده |
ظلَّتْ تَعُدُّ خُطاه تَرقُبُه | في الصيفِ مُزدهراً وتحسُده |
جَرداءُ ، وهو يَضِجُّ مَلْعَبُهُ | ظَلْماءُ ، وهو يُشَبُّ مَوقِده! |
خرَساءُ ، والأنعامُ تُرقصهُ | وكأنَّها بالموج تَرفِده |
تَتَعَثَّرُ الأجيالُ خالدةً | فيها .. ويَحضُنُها مُخَلَّده |
" داودُ " بالمزمارِ يُوقِظه | ويُنيمُهُ بالعُود " مَعبده " |
والهِيمُ تخزُنُهُ وتنهبُهُ | والغِيدُ تُنزِلهُ وتصُعِده |
ألْقَتْ إليه مِن مفاتِنِها | ما ليسَ إلاَّ اللهُ يَشهَده |
ورمَتْ له يقظانَ مِن مُتَعٍ | ما نحنُ في الأحلامِ نَنشُده |
والنجمُ حارسُها وحارسُه | والظلُّ موعدُها وموعده |
الآنَ أُدْرِكُ سِرَّ زَفْرتهِ | إذ لم يَعُدْ سِرّاً تَجَلّده |
فَلفَقدِه نَفَساً تَنَفُّسُهُ | ولذِكره نَهداً تَنَهَّده |
يتَعقَّبُ المسكينُ موجَتَها | عَبَثاً بمَوْجتهِ وتطْرُده |
لم يَدْرِ حتى الآنَ شِيمتَها | حسِبَ الهوى نَغَماً يُردِّده |
أمسِ استطابتْ فيه مَقصِدَها | واليومَ أهونُ منه مَقصِده |
لو يستطيعُ لَرَدَّ خُضرتَهُ | وبرغْمِ سَفْحَيْهِ تورَّده |
وبرغْمهِ أنْ حبَّ خابِطُهُ | للزارعينَ وذُمَّ مَورده |
ماسرَّهُ " والبِيضُ " تُنْكِرهُ | أنَّ المراعي الخُضْرَ تَحْمَده! |
فالذكْرَياتُ الغُرُّ يَشهدُها | رقراقُهُ الصافي وتَشْهَده |
مُتطامِنٌ لم تُخْشَ صَولتُه | لكبْ تَضيقُ بصائِلٍ يَده |
فمِنَ الشَّمال يدٌ وتُنْهِضُهُ | ومِنَ الجَنوب يدٌ وتُقْعِده |
كالنَّاسِ للحُفُراتِ مَرجِعُه | ومِنَ النِّطافِ النُزْرِ مولِده |
وخُضوعُهُ كخُضوعهمْ أبداً | للغيبِ أنَّى سارَ يقصده |
والفَصلُُ ، دونَ الفَصلِ ، يُنْعشُهُ | والأرضُ ، دون الأرض ، تُسعِده |
لَغِبٌ فلا الإِمساءُ يُوسِعُهُ | عَطْفاً ، ولا الإِصباحُ يُنجِده |
النجمُ أعمى لا يرافِقُهُ | والطيرُ أخرَسُ لا يُغرِّده |
مُتحَيِّرٌ لا يستَحِمُّ بهِ | فَلَكٌ ولا الأضواءُ تُرشِده |
وكأنَّ مُحتَشَدَ الضَّبابِ بهِ | بابٌ بوجهِ الشُهْبِ يُوصِده |
والشَّمسُ فاترةٌ تُذَكِّرهُ | وضَحَ السَّنا أيَّامَ تُوقِده |
أيَّامَ تنفُخُ في قَرارتهِ | من رُوحها نَفَساً تُجَدِّده |
والبدرُ .. حتى البدرُ يُوحشه | في يومِ محنتهِ ويُفرده |
هذا الذي ما كانَ مِثلَهما | للصيفِ من مَثَلٍ يُخَلِّده |
كانا يَرُبَّانِ الغرامَ معاً | ذا يَصْطَفيهِ ، وذا يُهَدْهِده |
لم يبقَ من هَرَجِ الربيع بهِ | الا الذي قد فات أجوده |
ومن العريشِ على شواطئه | إلاّ خُشَيْبات تحدِّده |
ركبٌ تحمل عنه ناشطهُ | واقام عاجزُه ومُقْعَده |
والسامرُونَ انفضَّ عُرْسُهُمُ | لا جِدُّهُ أغنى ، ولا دَده |
حجَلَ الغُرابُ على مواقِدهمْ | وعلى الرَّمادِ بها يُلَبِّده |
ومنَ الحَمامِ أظَلَّهُ زَجِلٌ | كَلِفٌ بلحنِ الصَّيفِ يُنْشِده |
ضَنْكُ المسَفَّةِ يَدَّني عَطَشاً | وتَموُّجُ الآذيِّ يُبعِده |
مُتَسائلاً بشمَ حالَ رَيِّقُهُ | عن حُرِّ لونٍ كان يَعهَده!؟ |
وعلى الضِّفافِ، البطُّ مُنكمِشٌ | لاهٍ بذاوي النبتِ يَعضِده |
شَعْثُ النَّسيل ، كأنَّ عابثةً | مَجنونةً راحتْ تُبدِّده |
ما الصَّيفُ سبَّطَ من جَدائلِه | جاءَ الخريفُ له يُجَعِّده! |
بادي الخُمولِ يؤودُه عُنُقٌ | في أمس ، من زهْوٍ ، يُمدِّده! |
وكأنَّه ، إذ خِيفَ مَسبَحُه | مُتَرِّهبُ قد سُدَّ مَعْبَده! |
أتُرى يعودُ غداً لِمَلْعَبهِ | لأمْ لا يعودُ كأمسه غده؟! |
وتهضَّمَ النُوتيُّ زورقَه | بالقار، بعد الغِيد، يَحشُده |
يقتاتُ من كِسَرٍ يُثَبِّتثها | في اللوح ، أو حَبلٍ يُمَسِّده |
لم أدْرِ لو لم تُنبِني سُرُجٌ | في شاطئيه ِ ، أينَ مَرقده |
ومَضَتْ .. فقلتُ : النّومُ أعوزَه | وجُفونُه ، رُمْداً ، تُسَهِّده! |
وخَبَتْ .. فقلتُ : غفا ، وإنَّ صَدىً | في السَّمْعِ من زَفْرٍ يُصَعِّده! |
وكأنَّ تابوتاً يُعِدُّ لهُ | مَلاَّحُه فيما يُنَضِّده |
وحسِبتُ مِزماراً يُشَيَّعُه | للقبرِ ، مسماراً يُشَدَّده |
وتجاوُبَ الأجْراءِ قافيةً | سمحاءَ باكيةً تُمَجّده! |
يا صامتاً عِيّاً ، ومَنْطِقُهُ | مُتَفَجِّرُ اليَنْبُوع سَرْمَده |
تَهفو فرائدُ عِقدهِ جَزَعاً | مما بها ، وتهيمُ شُرَّده |
وتُثيرُ فيه الذكرياتُ شجاً | يَعيا به فيَخُورُ أيِّده |
ومُوَكَّلاً بالدَّهر ، يَزرعُهُ | في شاطئيه ثمَّ يحصُده |
يا شَطُّ ، أنتَ أعزُّ مُنقَلباً | في الناطقينَ بما تُخَلِّده |
وكذا الطبيعةُ في عناصرها | جِنٌّ حَبيسُ الرُّوحِ مجهَده! |
نَرتادُ جامدَها نُفَجِّرُه | وعقيمَ غامضِها نُوَلَّده |
فلعلَّ ذا ، ولعَّلها لُغةٌ | من غيرِ ما جرْسٍ نعوَّده |
ولربَّما ضَحِكتْ بسائطُها | هُزْءاً بنا ممَّا نُعَقِّده |