القرية العراقية ..
مدة
قراءة القصيدة :
7 دقائق
.
رونقٌ في الثَّرى وعلى الروضةِ | لطفٌ من السَّما مسكوبُ |
ما أرقَّ الأصيلَ سال بشفَّافِ | شعاعٍ منه الفضاءُ الرحيب |
كلُّ شيءٍ تحت السماء بلونٍ | شفقيًّ مورَّدٍ مخضوب |
وكأن الآفاقَ تَحْتَضِنُ الأرضَ | بآصالِها إطارٌ ذهيب |
مَتّعِ العينَ إنَّ حُسناً تراهُ | الآنَ من بعدِ ساعةٍ منهوب |
والذي يخلَعُ الأصيلُ على الأرض | بكفِّ الدُّجى أخِيذٌ سليب |
منظرٌ للحقولِ إذ تُشرقُ الشمسُ | جميلٌ وإذ يَحيِنُ الغروب |
ولقد هزّني مسيلُ غديرٍ | مِنْ على جانبيهِ روضٌ عشيب |
يُظهِر الشيءَ ضدُّه .. وتُجارى | بسواها محاسنٌ وعيوب |
وكذاكَ المرعى الخصيبُ يُحلّيه | إلى الناظرينَ مرعىً جديب |
ثمَّ دبَّ المَساءُ تَقْدمُه الأطيارُ | مرعوبةً وريحٌ جَنوب |
وغناءٌ يتلو غناءً ورُعيانٌ | بقُطْعانِهم تَضيقُ الدروب |
يَحْبِسُ العينَ لانتشار الدياجي | في السَّما منظرٌ لطيفٌ مَهيب |
شفَقٌ رائعٌ رويداً رويداً | تحتَ جُنحٍ من الظلام يذوب |
وترى السُحبَ طيَّةً تِلوَ أُخرى | قد أُجيد التنسيقُ والترتيب |
وتراها وشعلةً الشفقِ الأحمرِ | تبدو أثناءها وتغيب |
كرَمادٍ خلاَّهُ وانزاحَ عنه | قبسٌ وسْطَ غابةٍ مشبوب |
ثمَّ سدَّ الأفقَ الدُّخانُ تعالى | من بيوتٍ للنارِ فيها شُبوب |
منظرٌ يبعثُ الفراهة والأنسَ لقلبِ | الفلاّح حين يئوب |
يعرفُ اللقمةَ الهنيئةَ في البيتِ | مُجدٌّ طولَ النهار دَءوب |
بُرهةً ريثما انقضى سمرٌ | تقطرُ لطفاُ أطرافُه وتَطيب |
واستقلَّ السريرَ أو حُزمةَ القشِّ | أريبٌ . نِضْوٌ . حريبٌ . تَريب |
سكنَتْ كلُّ نأمةٍ واستقرَّتْ | واستفزَّ الأسماعَ حتَّى الدَّبيب |
واحتواهمْ كالموتِ نومٌ عميق | وتغشَّاهُمُ سكونٌ رهيب |
ولقد تَخرِقُ الهدوءَ شُويهاتٌ | وديكٌ يدعو وديكٌ يُجيب |
أو نداءاتُ حارسٍ وهو في الأشباح | لاحتْ لعينه مستريب |
أو صدَى " طَلقةٍ " يبيتُ عليها | أحدُ الجانبينِ وهو حريب |
تركَ الزارعُ المَزارعَ للكلب | فأضحى خلالَهنَّ يجوب |
شامخٌ كالذي يُناطُ به الحكمُ | له جَيئةٌ بها وذُهوب |
كانَ جُهدُ الفلاّحِ خفَّف عنه | جَهدهُ فهو مُستكِنٌّ أديب |
وهو في الميلِ غيرهُ الصبحَ وحشٌ | هائجٌ ضيِّق الفؤادِ غَضوب |
فاحصٌ ظُفْرَه ونابيهِ أحلى | ما لديهِ أظفارهُ والنُيوب |
إنَّه عن رِعاية الحَقلِ مسئول | على ترك أمره معتوب |
وكثيراً ما سرَّه أنَّه بات | جريحاً .. ورأسًه مشجوب |
ليرى السيّدُ الذي ناب عنه | أنَّ حيوانَه شُجاعٌ أريب |
ولكيلا يرى مُسامحةً | يَعدِلُ منها لغيره ويُنيب |
للقُريَّاتِ عالَمٌ مُستقلٌّ | هو عن عالَمٍ سواه غريب |
يتساوى غروبُهم وركودُ النفس | منهم وفجرهُم والهبُوب |
كطيور السماءِِِ همّهُمُ الأوحدُ | زرعٌ يرَعْونه وحبوب |
يلحظون السماءَ آناً فآناً | ضحكُهم طوعُ أمرها والقُطوب |
أتُرى الجوَّ هادئاً أمْ عَصوفاً | أتصوبُ السماء أمْ لا تصوب |
إن يومَ الفلاّحِ مهما اكتسى حُسناً | بغير الغيومِ يومٌ عصيب |
وهو بالغيمِ يخنقُ القلب والأفقَ | جميلٌ في عينه محبوب |
للقُرى روعةٌ وللقرويِّين | إذا صابَ أرضهم شُؤبوب |
تُبْصِرُ الكلَّ ثمَّ حتى الصَّبايا | فوقَ سِيمائهم هناءٌ وطِيب |
يُفرِح البيتَ أنَّه سوف تُمسي | بقراتٌ فيه وعنزٌ حَلوب |
ويرى الطفلُ أنَّ حصتَّه إذْ | يُخصبُ الوالدان ثوبٌ قشيب |
أذكياءٌ .. عيونُهم تسبقُ الألسُنَ | عمَّا ترومه وتنوب |
والذي يَستمدُّ من عالم القريةِ | وَحياً وعيشةً لَلبيب |
مطمئنونَ يحلُمونَ بأنَّ الخيرَ | والشرَّ كُلّهُ مكتوب |
لا يطيرونَ من سرورٍ ولا حزنٍ | شَعاعاً ، لأنه محسوب |
ولقد يغضَبون إذ ينزلُ الغيثُ | شحيحاً ...والأرضُ عطشى تلوب |
أتُرى كانَ يعوِز اللهَ ماءٌ | لو أتتْ دِيمةٌ علينا سَكوب |
ثمَّ يستفظعون إثمَ الذي قالوا | فينوونَ عندهُ أنْ يتوبوا |
فإذا الشمسُ فوقهم فيقولون : | أعُقبى إنابةٍ تعذيب ؟ |
أفإيمانُنا بعيدٌ عنِ الخيرِ | وُكفراننا إليه قريب..! |
هكذا يَرجِعُ التقىّ أمامَ | العقلِ وهو المشكِّكُ المغلوب |
قلتُ إذ رِيعَ خاطري من مُحيطٍ | كلُّ ما فيه موحشٌ وكئيب |
ليس عدلاً تشاؤمُ المرءِ في الدنيا | وفيها هذا المحيط الطَروب |
مِلءُ عينيكَ خضرة تًستسرٌّ | النفسُ منها وتُستطار القلوب |
عندَهم مثلَ غيرِهم رغباتٌ | وعليهمْ كما عليه خطوب |
غير أنّ الحياةَ حيثُ | تكونُ المدنيَّاتُ جُلّها تعذيب |
كلَّما استُحدثتْ ضروبُ أمانٍ | أعقبتها من البلايا ضروب |
وكأنَّ السرورَ يُومِض برقاً | من خِلال الغيومِ ثمَّ يَغيب |
لا ترى ثَمَّ – غيرَ أن يتركَ الحبُّ | شحوباً – وجهاً علاهُ الشحوب |
ثمّ لاشيء عن سنا الشمس ممنوعٌ | ولا عن طلاقةٍ محجوب |
الهواءُ الهبَّابُ ، والنورُ ، | والخضرةُ تأتي ما ليس يأتي الطبيب |
ثمّ باسمِ الحصادِ في كلّ حقلٍ | تتناجى حبيبةٌ وحبيب |
قال فردٌ منهمْ لأخرى وقد | هَيَّجَ نفسيهما ربيعٌ خصيب |
طابَ مَنشا زروعِنا فأجابت : | إنَّ نشءاً يرعاهُ كْفءٌ يطيب |
قال ما أصبرَ الحقولَ على الناسِ | فقالتْ ومثلُهنَّ القلوب |
إنّ ما تفعلُ المناجلُ فيها | دونَ ما يفعلُ الشجا والوجيب |
ينهضُ الزرعُ بعدَ حصدٍ وقد | يُجتثُّ من أصله فؤادٌ كئيب |
يا فؤادي المكروبُ بعثرَكَ الهمُّ | كما بُعثِرَ الثرى المكروب |
وعيوني هلاّ نَضبتِ .. وقد ينضبُ | من فرطِ ما يسيل القليب |
عندَهم منطقٌ هنالكَ للحبِّ | جميلٌ وعندَهم أُسلوب |
ولهم في الغرامِ أَكْثَر ممّّا | لسواهمْ مضايقٌ ودروب |
مُلَحٌ خُصصِّتْ لهم ونِكاتٌ | ملؤهنَّ الإبداعُ والتهذيب |
ثَمَّ تحتَ الستارِ ممتَلكٌ بالحبِّ | عفواً .. ومثلُه مغصوب |
إنهمْ يُذنبونَ . ثم يقولون: | محالٌ أنْ لا تكونَ ذُنوب |
نحنُ نبتُ الطبيعةِ البِكرِ فينا | حسناتٌ منها .. وفينا عيوب |
بنتُنا وابنُنا معاً يرقُبانِ الزرعَ | والضرعَ .. والضمير رقيب |
ليس ندري ما يفعلانِ ولا نعلمُ | عمَّا زُرّتْ عليه الجيوب |
ما علينا ما غابَ عنَّا فعندَ | اللهِ تُحصى مظاهرٌ وغيوب |
غيرَ أنَّا ندري وكنَّا شباباً | نتصابى أنَّ الجمالَ جَذوب |
والفتى ما استطاعَ مُندفِعٌ نحو | الصباباتِ .. والفتاةُ لَعوب |
بالتصابي يُذكي الشبابُ ويغتُّر | كما بالرِّياح يُذكى اللهيب |
ثمّ عندَ اللقاء يُعرفُ إن كان | هنلكم " نجيبةٌ ..! " أو نجيب.. |
إنّ بعضَ الرجال يبدو أمامَ الحبِّ | صُلباً والأكثرون يذوب |
والتجاريبُ علَّمتنا بأنّ المرءَ | غِرٌّ يُقيمه التجريب |
ليس بِدعاً أن نَستريبَ ولكن | نتمنىَّ ألاّ نرى ما يُريب |
ليس فينا والحمدُ للهِ حتى الآنَ | بيتٌ " إناؤهُ مقلوب " |
فإذا كانَ ما نخافُ فهرقُ الدّمِ | سهلٌ كما تُراقُ ذَنوب |
منطقٌ للعقولِ أقربُ ممَّا | يدَّعيه أخو عَفافٍ مُريب |
ولقد يرمزونَ " عنَّا " بأنَّا | كلُّ ما في محيطنا مَثلوب |
فيقولون: قد تطيحُ من العارِ | بيوتٌ .. وقد تثورُ حروب |
والخَناسبَََََّةٌ علينا ولكن | في القُرى كلُّ ناقصٍ مسبوب |
عندنا كالفتى " الخفيفِ " لئيمٌ | وجبانٌ ، وغادرٌ ، وكذوب |
يُخجِلُ الناسَ في القُرى أنَّ فرداً | من أُلاءٍ عليهمُ محسوب |
إنَّه من خصائص المدنيَّاتِ | إليها شنارهُم منسوب |
في القُرى يوسعوننا وصماتٍ | مُخجِلٍ أمرها " البداةَ " مَعيب |
فيقولونَ : كلُّ شيءٍ صريحٍ | عندنا – عندكم خليطٌ مَشوب |
شُوّشَتْ منكم وسيطتْ سِماتٌ | ولُغاتٌ ولهجةٌ وحليب |
إنَّكم من نماذجِ العَربِ الساطينَ | ظُلماً عليهم تعريب..! |
كجليبٍ من البضائعِ يأتيكم من | العالمينَ وجةٌ جليب |
هو منكمْ كالأهلِ في كلِّ شيءٍ | وهو فينا عن كلِّ شيءٍ جنيب |
إنَّكم تمدحونَ خُبثاً وعدواناً | وغدراً كأنما المرءُ ذيب |