أرشيف المقالات

أتدرون ما العاصمة؟! أتدرون ما الكاشفة؟!

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
أتدرون ما العاصمة؟! أتدرون ما الكاشفة؟!


الخطبة الأولى
إن الحمدَ لله، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفُسِنا وسيئاتِ أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا اللهَ عبادَ الله؛ فتقوى اللهِ خيرُ مددٍ يُستجلبُ بها الخيراتُ والبركاتُ، قال جل وعلا: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].
 
أيُّها المسلمون..
أتدرونَ ما العَاصِمة؟! أتدرونَ ما الكاشِفة؟! أتدرونَ ما الحَافِظة؟! لا.
بل هي الفارِقة! بل هي المُمَيزة! بل هي النور! وما أدراك ما النور؟!
 
أيها المسلِمون..
في هَدأَةِ الليل، وسكونِ الظلام، إذا برجلٍ نائمٍ يَغطُ في سُباتٍ عميق، قد زادَهُ دِفءُ الفِراشِ ولذةُ النومِ غَطِيطًا إلى غَطِيطه، وبينمَا هُو كذلك، إذا بصوتِ رجلٍ جميلٍ قد هَيَّجَ الكونَ بجماله، يَزيدُ النفسَ راحةً وطُمأنينة، فإذا هو يقول: (الصلاةُ خيرٌ مِن النوم، الصلاةُ خيرٌ مِن النوم...)، فهمَّ الرجلُ أن يَتركَ فِراشَه ويُجيبَ الداعي، فنازعتْهُ نفسُهُ وقالت: أين تُريد؟ كيف تتركُ فراشًا يسكُنُهُ الدفءُ بين جنباتِه؟ وقال له الشيطان: عليكَ ليلٌ طويلٌ فارقد.
فَظل الرجلُ في جِهادٍ شديدٍ مع نفسِهِ والشيطان، يتذكرُ ذلكَ الصوت، فَيَهُمُّ بالقيامِ لطاعةِ الرحمن، ثُمَّ تتخطفُهُ كَلالِيبُ النفسِ والشيطان، وهو يزدادُ جهادًا لها، ويُردِّدُ مع المؤذنِ (لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله)، يحسُّ بثقلِ المجاهدة، ثم يَخلِطُها بطاعةِ الرحمن، فتستحيلُ هذه الأثقالُ إلى لذةٍ يجدُ حلاوتَها وبركَتَها طَوالَ يومِه، قال جل وعلا: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
 
أيُّها المسلِمون..
الصلاةُ عمودُ الدين، وقرةُ عينِ الحبيبِ صلى اللهُ عليه وسلم، وهديُ الأنبياءِ قبلَه عليهم الصلاةُ والسلام، وما مِن أُمةٍ إلا جعلَ اللهُ لها صلاةً تُقرِّبُهُم إليه، قال جل وعلا: ﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ...
[الحج: 67].
 
أيُّها المسلِمون..
الصلاةُ المُحمدية، هي عبادةٌ عظيمةٌ، فَرضَها اللهُ على نبيِّهِ فوقَ سماواتِه، وأَمَرَ بها ربُّ العِزةِ والجلالِ نبيَّهُ بلا واسطة، وجعلَ فيها مِن الأجرِ والثوابِ الدُّنيويِّ والأُخرويِّ ما تميَّزت بِهِ عن العباداتِ الأُخرى، فهي العاصِمة: تَعصِمُ دَمَ المُسلِمَ ومالَه، قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ((أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلَّا بحَقِّ الإِسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّهِ))؛ متفق عليه.
 
وهي الماحية: تغسلُ الذنوبَ والخطايا، قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ((أَرأَيتم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدِكُم يَغتسِلُ مِنهُ كُلَّ يومٍ خمسَ مرات، هل يبقى مِن دَرَنِهِ شيء؟))، قالوا: لا يبقى مِن دَرَنِهِ شيء، قال: ((فكذلكَ مَثَلُ الصلواتِ الخمس يمحو اللهُ بِهنَّ الخطايا))؛ رواه البخاري ومسلم.
 
وهي الكاشفة: تَكشِفُ الهَمَّ والغَم، فقد ثبت عنه صلى اللهُ عليه وسلم أنه كانَ إذا حزبَهُ أمرٌ فَزِع إلى الصلاة.
 
وهي الفارقة: تُفَرِّقُ بين الإسلامِ والكفر، قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ((بين الرجلِ وبين الكفرِ والشركِ تركُ الصلاة))؛ رواه مسلم.
 
وهي الحافظة: تَحفظُ العبدَ ودِينَهُ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله..
الحديث)
)
؛ رواه مسلم.
 
وهي المُمَيزة: تُمَيِّزُ بين الإيمانِ وبين النفاق، قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ((أثقلُ الصلاةِ على المنافقين صلاةُ العشاءِ وصلاةُ الفجر...
الحديث)
)
؛ متفق عليه، وروى مسلمٌ عن ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنه قال: (ولقد رأَيتُنا وما يَتَخَلَّفُ عنها إلا منــافقٌ معلومُ النفــــــاق) يعني صـــــــلاة الجمــــــاعة.
 
وهي النور: نورٌ في القلبِ وفي القبرِ وفي القيامة، قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ((والصلاة نور))؛ رواه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
 
أُمَّةَ الإسلام..
الصلاةُ المُحمدية، هي صِلَةٌ بين العبدِ وربِّه، وحبلٌ مَمدُودٌ بين السماءِ والأرض، مُوصِّلٌ إلى اللهِ جل وعلا، فكلما كانتِ الصلاةُ بأركانِها وخُشوعِها أَتم، كان الحبلُ المَمدُودُ أقوى، فَحفِظتِ العبدَ مِن الفحشاءِ والمُنكر، فهو يترقى بهذا الحبلِ في اليومِ والليلةِ خمسَ مراتٍ حتى يَصِلَ إلى ربِّهِ جل وعلا، وذلك بالثباتِ حُسن الخاتمة.
 
أُمّةَ الإسلام..
وكلما كانتِ الصلاةُ مُجردَ حركاتٍ لا خُشوعَ فيها، كان الحبلُ أَوهَنَ وأَضعَف، فأصبحَ العبدُ فريسةً للنفسِ والشيطان، يَتعَرَّضُ للفحشاءِ والمُنكر، حتى يَنقَطِع به الحبلُ، فتخطَفَهُ الطيرُ أو تَهوِيَ بِهِ الريحُ في مكانٍ سحِيق، قال جل وعلا: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45].
 
قال ابنُ القيِّم رحِمَهُ الله: (وسِرُّ الصلاةِ ورُوحُها ولُبها هو إقبالُ العبدِ على اللهِ بِكُليَّتِه، فكما أنَّه لا ينبغي له أن يَصرِفَ وَجهَهُ عِن قِبلَةِ اللهِ يمينًا وشمالًا، فكذلِكَ لا ينبغي له أن يَصرِفَ قَلبَهُ عَن ربه إلى غيره...
وعلى حَسَبِ إقبالِ العَبدِ على اللهِ في صَلاتِهِ يَكونُ إقبالُ اللهِ عليه، وإذا أَعرَضَ أَعرَضَ اللهُ عنه...)
إلخ.
 
أقولُ ما سمعتم، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، وللمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ مِنهم والأموات، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
 

الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ القائل: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]، والصلاةُ والسلامُ على نبينا محمدٍ القائل: ((مَن غَدا إلى المسجدِ أو راح، أَعدَّ اللهُ لهُ في الجنةِ نُزُلًا كُلما غَدا أو راح))، وعلى آلهِ وصَحبِهِ وسلَّم تسليمًا كثيرًا..
أما بعد:
فاتقوا اللهَ عبادَ الله..
 
أيُّها المُسلِمون..
إنَّ مِن أَعجبِ مُعجِزاتِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم وأَشدِّها فِتنةً في قلوبِ المشركين وثباتًا في قلوبِ المُؤمنين: مُعجِزةَ الإسراءِ والمِعراج؛ وذلكَ لِمُخالَفتِها قوانينَ البشرِ ونواميسَ الكون، وما كانت هذه المُعجِزةُ إلا لتثبيتِ قَلبِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم وأمرِهِ بالصلاة؛ وذلك لِعِظَمِ شأنِها وعُلوِّ قَدرِها عِندَ اللهِ تعالى، قال صاحبُ السِّيرةِ النَّبويةِ دروسٌ وعِبر: (في فَرضِ الصلاةِ ليلةَ الإسراءِ المِعراج، إشارةٌ إلى الحِكمَةِ التي مِن أجلِها شُرِعَتِ الصلاة، فكأنَّ اللهَ يقولُ لِعبادِهِ المؤمنين: إذا كانَ مِعراجُ رَسُولِكُم بِروحِهِ وجِسمِهِ إلى السماءِ معجزة، فَليَكُن لكم فِي كُلِّ يومٍ خمسَ مراتٍ مِعراجٌ تَعرُجُ فيهِ أرواحُكُم وقُلُوبُكم إليَّ، لِيَكُن لكم عُرُوجٌ رُوحِيٌّ تُحَقِّقُونَ بِهِ الترَفُّعَ عَن أهوائِكُم وشهوَاتِكُم، وتشهَدُون بِهِ مِن عَظَمَتي وقُدرَتي ووحدَانِيَّتي، ما يدفَعُكُم إلى السِّيَادةِ على الأرض...
عَن طَريقِ الخيرِ والسُّمو، عَن طَريقِ الطُّهرِ والتسامي، عَن طَريقِ الصلاة)
.
ا.هـ.
 
اللهُمَّ اهدِ قُلُوبَنا إليك، واجعلنا مُقِيمِينَ الصلاة ومِن ذُريَّاتِنا، ربَّنَا وتَقبَّل دُعَاء.
 
هذا، وصلوا وسلموا على من أمركم اللهُ بالصلاةِ والسلامِ عليه؛ قال اللهُ جل وعلا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك، على عبدك ونبيك محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
 

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن