المجرمون الحقيقيون
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
عندما يُطلق لفظ الإجرام، تَتَعَلَّق الأذهان بأولئك الذين يسرقون، أو بأولئك الذين يخطفون الأولاد، أو بأولئك الذين يقتلون، وتلك مِن معاني الإجرام فعلاً، وهم معلقون بذلك المصطلح الذي يُدْعَى الإجرام، وينسبون إليه جزاء ما كان من فعلهم الدَّنِيء.لكن منَ الخطأ أن نجعلَ معنى الإجرام واحدًا متوحدًا في هيكل معين، أو في صورة معينة، لا يَخْرج عنها، أو لا يبتعد عن حِماها، ذلك أنَّ هناك مجرمين يعيشون بيننا، ولا يُطلَق على أحدهم ذلك المعنى؛ لأنَّه لم يَقُم بفعلِ الإجرام على رؤية الناس، وحسب ما تفاهَمَتْ عليه عقولُهم.
هناك مجرمون يسلبون منَّا حريتنا الفكريَّة، تحت ظلال الطاعة المُطلَقة، التي لا ضوابط لها سوى ما يملونه علينا مِن أهوائهم.
هناك مجرمون يغتالون حُرمة قِيمنا؛ بهدف أنَّ العالَم يَتَطَوَّر، وأنه لا بُدَّ مِن مُوَاكَبة التَّجديد والحضارة التي زعموا بها رُقيًّا وعلوًّا.
هناك مجرمون يحرمون أناسًا من مصالح لهم مُرَادة، وحقوق لهم أصلية، فنزعوها عنهم وأذاقوهم الحرمان، هناك مجرمون يقتاتون على الضعفاء، ويجعلون منهم ولائم، كلما اشتهى أحدهم شيئًا ما، كان ذلك تحت يده، فيأكله حيث اشتهاه.
هناك مجرمون يُدَنِّسون شرف الفضيلة، ويَدَّعون أنهم يحمونها بدافع الخوف عليها بحرمانها الحقوق، والمصالح التي منعت منها.
هناك مجرمون لبسوا ثياب البَذْل للخير، وهم يهدمون أساسه وأركانه، يقدمون له لبنة بناء، ويهدمون لبنات مِن بنيانه، يقدمون سَيْره خُطوة، ويعثرون له خطوات وخطوات.
وهناك مجرمون لا نعلمهم، اللهُ يعلمهم، قدِ اتَّخذوا مِن لباسهم ومكانهم ذريعة لِمُمَارسة جرائمهم، التي مِن شَأْنها الإبادة المُطْلَقة لكلِّ ما تحمله الحياة من روح يضمن استمرار روعتها، وتفسد للمجتمع ما يَتَقَيَّد به مِن مبادئ، وتقاليد، وقِيَم، تضمن له الصلاح والخير، لو كان في يد أحدهم لُقمة عيش ما مَدَّها لمحتاج، أو ضعيفٍ، أو بائسٍ، ولو كان في يد أحدهم حياة، ما وَهَبَها لأحَد.
إنَّ تفكيرنا المحدود، وعقلنا القاصر، جَعَلَنا لا ندرك مرامي الإجرام الحقيقي الذي يدلسه لنا بعض منَ الناس، ويجعلنا لا نرى منه سوى ما يكون ظاهرًا جليًّا، وربما كان بعض مَن نزعم أو ندّعي أنهم مجرمون للخطيئة، والجريمة المقترفة أَنْزَه وأرقى مِن بعضنا، فجريمتهم قاصِرة لا تَتَعَدَّى، وإن بعدت فهي محصورة مَقْضيٌّ عليها، أما أولئك المجرمون الخفيُّون المتوارون عن العيون، فيفعلون بالمجتمع وبالأمة المصائب والكوارث التي لا يُدرى عنها، فجعلوا منَ المجتمع الذي يضمهم ويحويهم أداة؛ لِبَثِّ ما يريدونه.
لو نَظَرْنا بِعَيْن الحكمة والتوقُّف، ورأينا بعض التَّصَرُّفات التي تكون مِن بعض الناس، لَرَأَيْنا الإجرام بِعَيْنه، وَلَعَايَشْناه بِصُورته التي ينبغي أن نراه عليها، ولأَدْرَكْنا أنَّ الوضع متفاقِم، وجد يبعث حالة الخطر التي مِن شأنها الاستعداد لِتفادِيها وعلاجها، ويعلو الأمر وتزيد الطامَّة إن كان المجرِم في إجرامه متكرر.
وأبشع مجرم هو مَن يهدم ما يَبْنِيه غيرُه منَ العمل الصحيح، الذي يسير في الاتجاه الصحيح، فيعبث به وينحيه عن ناحيته، فيصبح العمل بذلك مفسدة وعلة في جسد الأمة، ويكون ناخرًا لما بني لأجله، بل وكان ما عُمل لأجله غطاء لأدوات الإجرام، ولما يبذل فيها.
وما يحويه المجتمع مِن مجرمينَ ما هو إلاَّ نتاج لغياب المصلحين، الذين هم بمثابة رجال أمن خفيين، يحمون المجتمع من أخطاء أولئك المجرمين، ويحبطون أعمالهم المخربة المخزية، فيعم الأمن النفسي والفكري والقيمي، وكل ما هو مِن شأنه استقرار للنَّفس، والذات، والدين.
يا ليت الناس تدرك كم من مجرم متخفٍّ تحت أستار الدعوة إلى الإصلاح والتهذيب، ويا ليتهم يعرفون مَن هو المجرم الحقيقي الذي يعبث بهم ويهوي بهم، وليتهم يدركون أن تأخُّر النصر والرفعة للأمة هو بسبب تواجُدهم وتمكُّن بعضهم، الأمر الذي سَهَّل تنفيذ مُخَطَّطات الإجرام، وحماية المُجرمينَ، ولا ينعدمون إلاَّ بِوُجود مَن يعرف لهم، ويدرك أبعاد إجرامهم، وقبل ذلك ألا يكون لديه سجل إجرامي ينقص قدر عمله أو يدنيه.
والكَشْف عن أولئك المجرمين لا يشترط أن تكون شرطيًّا، أو استخباريًّا، أو أن تكون مستكشفًا تحمل عدسه، بل إن الأمر ينكشف إذا فكرنا تفكيرًا سليمًا، وقِسنا الأمور والأشخاص بالمقاييس الصَّحيحة، وألا نَدَع الغاديات والرائحات منَ الأقوال والأفعال هي من يحكم وجهة نظرنا.
إن الإجرام لن يتوقف، لكنه يُبْعَد ويُنْفَى، سواء أكان ذلك حسيًّا أم معنويًّا، وتلك سُنَّة كونية لازمة، لكن من يملك طرده وإبعاده، وتوعية مجتمعه وحمايته منهم، سيكون فخر حياته وحياة من بعده.
____________________________________________
الكاتب: عبدالمجيد بن عبدالرحمن باحص