أرشيف المقالات

كرماد اشتدت به الريح

مدة قراءة المادة : 22 دقائق .
(كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ)

أن تأتي أمثلةُ الكفر والإيمان ووعيد الكافرين في هذهِ السورة العظيمة التي تحمل اسم خليلِ الرحمن "إبراهيم" عليه السـلام، فذلك مما يجدُرُ التفكرُ والتأمُّلُ فيه حقًا!.
فسبحان الخالق العليم الخبير؛ الذي علِمَ ما كان وما يكونُ من خلقِهِ، ومالم يكن لو كان كيف يكون..
 
ومعلومٌ أن القرآن العظيم كلُه في التوحيد كما ذكر ابن القيم رحمهُ الله[1]، بيد أن تشتد أمثلة وعيد الكافرين في هذه السورة تحديدًا؛ فكأنها تذُبُّ عن التوحيد الخالِص وتبيِّنُ معنى وكيفيةِ الانتساب الصحيح الصادق لإمام الحُنفاء وداعية التوحيد "إبراهيم عليـه السلام".
فهذهِ السورة وحدها تُجلِي الحق وتفتحُ مدارك العقلِ لذي لُبٍ يتساءلُ عن حنيفيةِ إبراهيم عليـه السلام ومِلَّتِهِ، ما هي؟!.
ليحسُن منهُ انتسابٌ صحيح!.
إذ لو صدقت دعوى كل منتسبٍ إلى خليلِ الله إبراهيم عليـه السلام، لم يكن لذكر الفُرقاء في السورة الكريمة وجه – تعالى اللهُ العظيمُ سُبحانه-، فاشتدادُ الوعيد لمن تنكَّب الجادة فحادَ عن التوحيد الخالص، مُشعِرٌ بفداحَةِ الشِّركِ بالله وخطره العظيم.
 
وأما المثال الذي معنا من هذه السورة الكريمة؛ فهو قولُ ربنا سُبحانه: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾ [إبراهيم: 18].
 

وسيقتصر الحديث حول أربعة محاور:
• معنى الآية.
• القراءات الواردة في الآية الكريمة وتوجيهها.
• وقفة مع التمثيل بالرماد.
• وقفة مع ختام الآية: ﴿ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾.
كفى بكتابِ اللهِ بيانًا شافيًا وافيًا، سبحان من تكلَّم به، وسبحان من أنزلهُ ليكونَ هدىً للناس ورحمةً للعالمين.
 

أولًا: معنى الآية:
قال الإمام الطبري - رحمهُ الله -: (وهذا مثلٌ ضربه الله لأعمال الكفّار؛ فقال: مَثَلُ أعمال الذين كفروا يوم القيامة، التي كانوا يعملونها في الدنيا يزعمُون أنهم يريدون الله بها، مَثَلُ رمادٍ عصفت الريح عليه في يومِ ريح عاصفٍ، فنسفته وذهبت به، فكذلك أعمال أهل الكفر به يوم القيامة، لا يجدون منها شيئًا ينفعهم عند الله فينجيهم من عذابه، لأنهم لم يكونوا يعملونها لله خالصًا، بل كانوا يشركون فيها الأوثان والأصنام).
 
وقال القرطبي - رحمهُ الله -: (أعمالهم محبطة غير مقبولة، والرماد ما بقي بعد احتراق الشيء؛ فضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف.
والعصف شدة الريح؛ وإنما كان ذلك لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى)
.
 
ثانيًا: القراءات الواردة في الآية الكريمة وتوجيهها[2]:
قرأ نافع وأبو جعفر (الرِيَاحُ) بفتحِ الياء وبعدها ألف.
وقرأ الباقون (الرِّيْحُ) بإسكانِ الياء وحذف الألف.
 

العلاقة التفسيرية بين القراءات:
من قرأ (الرياح) فعلى الجمع، ومن قرأ (الريح) فعلى الإفراد، وأُريد به الجنس.
ووجه القراءة بالجمع؛ هو إثبات الرياح من كل جانب وذلك معنىً يدلُ على اختلافِ هبوبها، فيكون لفظها مطابقًا لمعناها في الجمع.
ووجه القراءة بالإفراد أن الواحد يدل على الجمع، لأنه اسمٌ للجنس فهو أخفُّ في الاستعمال مع ثبات معنى الجمعِ فيه.
 
وقد أفادت قراءة الجمع، كثرة تشتت الرماد وذهابه، لتعدِّد جهات هبوب الرياح، أما قراءة الإفراد فقد أفادت بيان شدَّة هبوب الرِّيح، حيثُ هبوب الريح من كلِّ جهة على حدة كان شديدًا قويًا.
وبالجمع بين القراءتين يُستفاد أن الرياح عصفت بالرماد من جهاتٍ مختلفة، وكان هبوبها من كل جهةٍ قويًّا شديدًا.
والله أعلم.


ثالثًا: وقفة مع التمثيل بالرماد:
إن أوَّل ما يلفت العاقل اللبيب في هذهِ الآية الكريمة؛ هو التشبيه بالرماد الذي هو أخفُ الذَّراتِ وزنًا، فهو وإن لم تُسَلَّط عليهِ الريح الشديدة لكان ذهابُهُ وتفرقهُ متحققًا لأدنى هبوب!؛ فكيف بريحٍ ورياحٍ، ليس هذا فحسب بل هما في يومٍ منزعجٍ عاصف؟!.
بمعنى أن تلكم الريح والرياح ليستا في جزءٍ من أجزاء ذلك اليوم، بل اليومُ كُلُهُ بليلِهِ ونهارهِ وغُدُوِّهِ وعَشِيِّهِ ثائرٌ عاصف، لا تكادُ تهدأ ثورةُ عصفه وعصوفِه!.
فأنى تستقرُّ لحيٍّ به معيشةٌ أو قرار؟![3].
 
أورد الزمخشري وغيره: "قوله: (فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ)؛ العصْفُ: اشتِدادُ الرِّيحِ؛ وُصِفَ به زَمانُه للمُبالَغةِ، فجُعِلَ العصْفُ لليومِ، وهو لِمَا فيه، وهو الرِّيحُ أو الرِّياحُ؛ فشَبَّهَ هذه الأعمالَ- في حُبوطِها، وذَهابِها هباءً مَنثورًا؛ لِبنائِها على غيرِ أساسٍ مِن معرفةِ اللهِ والإيمانِ به، وكونِها لِوجْهِه تعالى- برمادٍ طيَّرَتْه الرِّيحُ العاصِفُ[4].
وقال ابن قتيبة: "عَاصِفٍ: أي: شديدِ هُبوبِ الرِّيحِ، وأصلُ (عصف): يدُلُّ على خِفَّةٍ وسُرعةٍ"[5].
 
وتالله؛ إن عَصَف يوم القيامةِ بأهوالهِ التي تنخلعُ لها القلوب والأفئدةِ، وتشخَصُ لها أبصارُ أهل المحشر وتخشع، لأشدُّ وأنكى، من يومٍ من أيَّامِ دنيانا عاصف![6].
فكيف بخاسِرٍ –والعياذُ بالله- خسر نفسه وأهله، مع ما في يومِ الحسرة من الغبن والهول والضيقِ والشِّدة ومختلف القوارع والطوآم، أن يرى عملًا أَمَّلَهُ ورجا خيرَهُ وثوابهُ، يذهبُ هباءً منثورًا؟!.
فبالحري بعاقِلٍ أن يلتمِس أسبابَ نجاته في ذلك اليوم، بالبعد عن الشركِ وأسبابه؛ كثيرِهِ وقليلِهِ.[7]
 
ولئن كان الكافر يفقِدُ ثوابَ جميع ما عَمِلَ لتلبُّسِهِ بالشرك الأكبر، فالمسلمُ كذا يفقِدُ ثواب العَمَلِ الذي خالطهُ السمعة والرياء والعياذ بالله.[8]
 
يقول السعدي رحمهُ الله: "يخبر تعالى عن أعمال الكفار التي عملوها؛ إما أن المراد بها الأعمال التي عملوها لله، بأنها في ذهابها وبطلانها واضمحلالها كاضمحلال الرماد، الذي هو أدق الأشياء وأخفها، إذا اشتدت به الريح في يوم عاصف شديد الهبوب، فإنه لا يبقى منه شيئا، ولا يقدر منه على شيء يذهب ويضمحل، فكذلك أعمال الكفار (لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ) ولا على مثقال ذرة منه لأنه مبني على الكفر والتكذيب..
وإما أن المراد بذلك أعمال الكفار التي عملوها ليكيدوا بها الحق، فإنهم يسعون ويكدحون في ذلك ومكرهم عائد عليهم ولن يضروا الله ورسله وجنده وما معهم من الحق شيئا.".[9]
 
ثم التمثيل بالرماد يدل على خِفةِ عمل الكافر وأنهُ لا وزن لهُ عند الله تعالى[10]، فلا قيمةَ ولا وزن للعامل، ولا قيمةَ ولا وزن ولا ثقل للعمل والعياذُ بالله، كما قال تعالى في الكافرين: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)، وقال: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)، وقال: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ﴾ [الفرقان: 23].
وقال: ﴿ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 117]، وقال: ﴿ وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾[11].
وغيرها من الآيات الكريمات.
 
ومن الأحاديث الشريفة: أنهُ "يُؤتَى يومَ القيامةِ بالرَّجلِ السَّمينِ، فلا يزِنُ عند اللهِ جناحُ بعوضةٍ.
ثمَّ قرأ: ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾.[12]
 
رابعًا: وقفة مع ختام الآية (الضلالُ البعيد):
ثمة أبعاد معنوية لخاتمةِ الآية الكريمة، جميلٌ تأملها؛ فمن ذلك:
قال الطبري: "وقوله: (ذلك هو الضَّلال البعيد)، أي الخطأ البينُ، البعيدُ عن طريق الحق.[13]
 
وقال القرطبي: "ذلك هو الضلال البعيد أي الخسران الكبير; وإنما جعله كبيرًا بعيدًا لفوات استدراكه بالموت".[14]
 
وقال ابن كثير: "(ذلك هو الضلال البعيد) أي: سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما هم إليه".[15]
 
وأورد ابن عاشور: "وجُمْلَةُ (ذَلِكَ هو الضَّلالُ البَعِيدُ) تَذْيِيلٌ جامِعٌ لِخُلاصَةِ حالِهِمْ، وهي أنَّها ضَلالٌ بَعِيدٌ.
والمُرادُ بِالبَعِيدِ البالِغُ نِهايَةَ ما تَنْتَهِي إلَيْهِ ماهِيَّتُهُ، أيْ: بِعِيدٌ في مَسافاتِ الضَّلالِ، فَهو كَقَوْلِكَ: أقْصى الضَّلالِ أوْ جِدُّ ضَلالٍ".[16]
 
وللدكتور عبد العظيم المطعني رَحمهُ الله تأملٌ بديع، يقول: "كما نلاحظ وصف الضلال بـ (البعيد) ولم يقل (المبين)، لأن الريح لشدَّة عصفها طيَّرت الرماد إلى مسافاتٍ نائية جدًا لو تعقبوها في تلك المسافات لوقعوا في حَيرةٍ وضلالٍ بعيد، والمسافات كما نعلم يناسبها البُعد الذي جُعل الوصف منه وصفًا لضلالهم في هذا المكان".[17]
 
وبعد: فهذهِ السورة الجليلة قد امتلأت بعظيمِ المعاني، التي يجدر بأهلِ التدبر والمشتغلين بعلوم القرآن ومقاصد السور الكريمة، أن يجمعوا ما حُرر فيها من التأملات والتدبرات، وتُقام فيها مجالس العلم.
ففيها أبلغ رد على كُلِّ دعوةٍ هدَّامة تناقض العقيدة الصحيحة قديمًا وحديثًا.
 
ومن تلك المعاني على سبيلِ المِثال: أنهُ لا يُتصوَّرُ لمُدعي الحنيفيةِ أن يكون تاركًا للصلاة، ولا تاركًا للدعاء الذي هو العِبادة كما جاء في الحديث، ولا ميممًا وجههُ نحو قِبلةِ زور؛ وإنما عليهِ أن ييمم وجههُ شطر البيتِ الحرام؛ في إشارةٍ لوجوب اتباع منهاج النبوة وهدي رسول الله صلى الله عليـه وسلم الذي خُتمِت به الرسالات.
 
كما لا يُتصوَّرُ لمدعي الحنيفية أن يخلوَ من عبادةِ الحمدِ والشكر، والتعلُّق بالله على كُلِ حال؛ ميممًا القلب نحو العرش كما يمم بدنهُ نحو البيتِ العتيق.
 
ولا يُتصوَّر لمدعي الحنيفية أن يخلوَ من معرفةِ الله بأسمائه وصفاته؛ فأعرف الخلقِ بالله هم رسل الله وأنبيائه عليهم صلواتُ الله وسلامُه، ومعلومٌ موقف الخليل عليه السلام حين أودع زوجَهُ وابنَهُ بوادٍ غير ذي زرع، في توكِّلٍ وامتثال وعبوديةٍ وآدابٍ جمَّة، ثم دعا ربَّهُ عزوجل بما ذكرهُ لنا القرآن والسّنة، بل ووصف ربَّهُ عزوجل بأنهُ (سميعُ الدعاء)؛ أي مجيبه سبحانهُ وتعالى.
وهكذا يجدر بالمؤمن أن يدعو الله عزوجل وهو موقنٌ بالإجابة كما أرشدنا إلى ذلك نبينا محمد صلى الله عليـه وسلم.
 
كما لا يُتصوَّرُ من مدعي الحنيفية أن يغفل عن مراقبة الله تعالى في كل أعمالهِ فيما بينهُ وبين الله تعالى، وفيما بينهُ وبين الخَلق؛ حذرًا من أن يظلم شيئًا من الخلق، فيكون الربُّ عزوجل خصمُهُ يوم قيام الأشهاد -والعياذُ بالله-.
 
كما لا يُتصوَّر من مدعي الحنيفية أن يترك العبادات الباطنة إلى جانب الظاهرة؛ وذلك بالتأمل والتفكر في نِعَم الله تعالى وما خلق الله في هذا الملكوت، وما سخَّرهُ لعباده بفضله ورحمته.
 
كما لا يُتصوَّر من مدعي الحنيفية أن يأمن على نفسهِ الوقوع في الشرك، فقد قال إمام الحنفاء عليـه السلام: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ).
 
ولا يُتصوَّر من مدعي الحنيفية أن يغفل عن الثناءِ على الله تعالى وتمجيده وتقديسه واللهج بذكره تعالى كل حين؛ فتلك وصية إمام الحُنفاء عليـه السلام.
قال صلى الله عليـه وسلم: "لَقِيتُ إبراهيمَ ليلةَ أُسْرِيَ بي، فقال: يا مُحمَّدُ أقْرِئْ أُمَّتَك منِّي السلامَ، وأَخبرْهم أنَّ الجنةَ طيبةُ التُربَةِ، عذْبةُ الماءِ، وأنَّها قِيعانٌ، وأنَّ غِراسَها سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ".[18]
 
كما لا يُتصوَّرُ من مدعي الحنيفيةِ أن يجهل كلمة التوحيد التي يدخلُ بها في هذا الدين العظيم؛ دينُ الإسلام، ومعناها وشروطها ونواقضها، ليُحسن الاتِّباع والاهتداءَ بحقائق الشرع، حتى تكونَ خاتمةً له في دنياه، ومفتاحَ دارِ السلامِ في أُخراهُ بإذن ربِّه.
 
ولا يُتصوَّرُ من مدعي الحنيفيةِ أن يتثاقل عن العبادة وامتثالِ أوامرِ الربِّ عزوجل[19]، متشبِّهًا في ذلك بالمنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاةِ قاموا كُسالى[20].
وهو يُحِبُ أن يُؤدَ الذي له من دنياهُ إليه بلا وكسٍ ولا شطط، ثم إن كان في أمرِ الآخرة ألفَيْتَهُ كَسِلًا مُسوِّفًا طويلٌ أمَلُهُ؛ ما درى أن المُنى رأسُ أموالِ المفاليس!.
 
وغير ذلك كثير من دقائقِ المعاني والتأملات التي يُستدلُ بها على الاعتقاد الصحيح الخالص، المُنجي بعون اللهِ تعالى من عذابِ الآخرة وخِزي يوم القيامة.
نسألُ الله رحمته وسبيل الرشاد

[1] يقول ابن القيم في المدارج: "إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع كل ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره فهي حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم".

[2] تفسير القرآن بالقراءات القرآنية العشر، من خلال سور: "هود ويوسف وإبراهيم والحجر والنحل"، رسالة ماجستير للباحثة: هيفاء رضوان، إشراف د.
رياض محمود قاسم، 1428هـ - 2007م، كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية - غزة.
ج5 الصفحات: (175، 176،177).

[3] كذا الكافر لا يحصلُ له نعيمٌ في دار الجزاء حيث أحبط الشرك جميع أعمالِه.
فلا يموتُ ولا يحيا في دارِ الشقاء الأبدي، كما قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [هود: 106 – 107].

[4] موقع الدرر السنية، موسوعة التفسير: https://2u.pw/hDkBT

[5] غريب القرآن.
نقلًا عن: موقع الدرر السنية، موسوعة التفسير: https://2u.pw/hDkBT.
سُبحان الله هاهنا معنىً عميق يفيدُهُ معنى الخِفَّة والسُّرعة، كأن أعمال الكافرين لا يُلتفت إليها ولا يُنظر إليها أصلًا ما داموا قد تلبَّسوا بالكفر، ويشهد لهذا المعنى الحديث الذي جاء فيه: "إذا كان يومُ القيامةِ أذَّن مُؤذِّنٌ لتتبَعْ كلُّ أمَّةٍ ما كانت تعبُدُ، فلا يبقَى أحدٌ كان يعبُدُ غيرَ اللهِ من الأصنامِ والأنصابِ إلَّا يتساقطون في النَّارِ.."؛ صححهُ الألباني.

[6] وهذا المعنى الذي عبَّرت عنه الآيات في أواخر السورة ذاتها، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾ [إبراهيم: 42-43].
وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليـه وسلم قال: "من سرَّه أن ينظرَ إلى يومِ القيامةِ كأنه رأيُّ عينٍ فليقرأْ: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴾، وحسبت أنه قال: وسورةَ هودٍ"؛ أخرجه الإمام أحمد في مُسنده وقال الشيخ أحمد شاكر: إسنادُهُ صحيح.
وعنهُ أيضًا رضي الله عنه: "مَن سرَّهُ أن ينظرَ إلى يومِ القيامةِ كأنَّهُ رأيُ عَينٍ فليقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، و(إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ)، و(إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ)".
صححهُ الألباني.

[7] علمنا رسول الله صلى الله عليـه وسلم في توجيهه النبوي الكريم للصديق رضي الله عنه: "يا أبا بكرٍ، لَلشِّركُ فيكم أخْفى من دبيبِ النَّملِ والذي نفسي بيدِه، لَلشِّركُ أخْفى من دَبيبِ النَّملِ، ألا أدُلُّك على شيءٍ إذا فعلتَه ذهب عنك قليلهُ وكثيرهُ؟ قل: اللهم إني أعوذُ بك أن أشرِكَ بك وأنا أعلمُ، وأستغفِرُك لما لا أَعلمُ".
صحيح الأدب المفرد.

[8] أخرج الإمام مسلم في صحيحه، حديث النبي صلى الله عليـه وسلم فيما يروي عن ربِّهِ عزوجل: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".
فالشرك، وكبائر الإثم والفواحش -وهو ما تناهى قُبحهُ من سيئ العمل وترتَّب عليه الوعيد الشديد من الشارع-؛ يتسببان في خفةِ الميزان يوم القيامة والعياذُ بالله.
فالأول لا يُقبل معه عملٌ صالح وقد خلا من الإيمان بالله تعالى؛ الذي هو أصلُ قبول الأعمال.
والثاني قد أثقلَ صاحبهُ كفة العمل السيء فخفَّ الآخر –والعياذُ بالله- إلا أن تُدركهُ رحمة الله تعالى بأن يكون من الموحدين فتنالهُ الشفاعة.
–نسأل الله عافيته ورحمته-

[9] تفسير السعدي.
والمعنى الثاني مِصداق قول الله عزوجل: ﴿ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ﴾ [آل عمران: 111]، وقوله سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36]، وقوله: ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83]، وقوله: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِيۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21].
وغيرها من الآيات الكريمة.
وإذا تأملنا نفيَ القُدرة لهم (لا يقدرون)؛ نجدها تُكرِّسُ معاني اليأس والقنوط البتة من نيل رحمةِ الله في ذلك اليوم مهما فعلوا من استجدائها ولو يسيرًا؛ فمن سؤالِ الرد ليعملوا صالحًا، والاستعتاب، والاصطراخ وسؤال الموت والقضاء عليهم، والحلف لله كما كانوا يحلفون كذِبًا في الدنيا، إلى غير ذلك والعياذ بالله.

[10] من الغبن حقًا أن يترحمَ مسلمٌ على كافر بدعوى أنهُ أسدى للبشريةِ نفعًا أو خيرًا نحو؛ مُخترَعٍ أو مُكتَشف!، وينظُرُ بنظرِهِ القاصِر إلى عَرَضٍ دنيوي!، غافلًا عن معانيَ عظيمة من مثل: أن الله لا يظلِمُ أحدًا، وأن الله تعالى حرَّمَ الجنة على مشرك، وأن الله تعالى نهى عن الاستغفارِ للمشركين، وأن حقَّ الله جلَّ جلاله يعظمُ على حقِّ البشر والمخلوقين، وأنهُ إنما هو عبدٌ للهِ مؤتَمِرٌ بأوامِرِ الشرع فحسب وذلك مقتضى العبودية، وأن الله الذي خلق الخلق هو أعلمُ بهم، وأنهُ العدلُ الجليل سبحانهُ وتعالى قد تمت كلماتُهُ صدقًا وعدلًا ولا مُبَدِّل لها.
فيأتي المِسكين ليُبَدِّل جهلًا!.
إشكالٌ حقيقي أن يتخبطَ المسلم مع رياحِ لوثة الإعلام الفاسد وعاديةِ مواقع التواصل أنَّى توجَّهت به!.

[11] سورة الأنعام (70)

[12] عمدة التفسير، وقال الشيخ أحمد شاكر: "أشار في المقدمة إلى صحته".

[13] تفسير الطبري.
ولذلك حقًا: لا أظلمَ من مشرك والعياذ بالله.
وقد ضرب الله لهم مثلًا من أنفسهم بما لا مزيد ولا مزايدة عليه من المعاني البيِّنَة الواضحة التي لا تخفى على ذي بصر، ولكنهُ عشى البصيرةِ -والعياذُ بالله-، فقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [النحل: 71]، وقال: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 29].
نعوذ بالله من الخذلان.

[14] تفسير القرطبي.

[15] تفسير ابن كثير.

[16] التحرير والتنوير.

[17] تفسير القرآن بالقراءات القرآنية العشر، ج5 ص177

[18] حسنهُ الألباني.
وهذا المعنى يتضمن الإيمان باليومِ الآخر وما فيهِ من الحقائق.

[19] فـ "هويُ الأفئدة"، ومواقف الخليل عليـه السلام في سرعة تنفيذ أمر الله تعالى؛ بوضع زوجه وابنه بوادٍ غير ذي زرع، ثم مسارعته لتنفيذ رؤياهُ بذبح ابنه الذي سُرَّ به بعد زمن.

[20] لو لم يكن الأمر من الشِّدة بمكان وأنهُ لا يليقُ بالمؤمنِ الحقِّ - أدبًا مع مقامِ الربوبية-، لم يذكرُهُ الله تعالى في كتابه!.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢