ثمار التوبة النصوح
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
ثمار التوبة النصوحقال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
يتوبُ العبدُ لله تعالى، لا ليقصِّر ثوبَه ولا ليُشار إليه بالبنان، وإنما يتوب لعلَّ اللهَ يغفرُ ذنبه، ويحفظه فيما بقيَ من حياته، باتِّباعه كتابَ الله وسنَّة نبيِّه محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، يَذوق العبد طعمَ الإيمان والأُنْس بالله تعالى في سجوده، وفي لذَّة المناجاة - من شجونٍ وآلامٍ، وآمالٍ وأُمنيات - يبتغي حياةً سعيدةً مطمئنةَ الأحوال، وكذلك مَن يترك شيئًا لوجه الله تعالى، يُعوِّضه خيرًا منه بمنِّه وكرمه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 17].
بعيدًا عن رُفقاء السوء والصحبة الفاسدة، فالصاحبُ ساحِب، والمرءُ على دين خليله؛ كما في مسند الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرءُ على دين خليله، فليَنظُر أحدُكم مَن يُخالِل)).
وليس من صفات التوبة النصوح مَن ينسى صاحبُها نفسَه؛ ليَشتغل بعيوب الناس، ولا من ينتقص العلماءَ ويَجحد فضلَهم، وليس التائب الذي يُجادل؛ ليَغلب رأيُه رأيَ غيرِه أو مسألتَه، فالجدال عقيم، ولا التائب مَن يُحسِّن خُلقَه لغيره، فإذا خلا بأهل بيته كشَّر وأغلَظ لهم القول، ولا الذي ينسى والدَيه ويَهجرهما، فليس ذلك من البِرِّ في شيءٍ، ولا مَن يسبُّ ويَشتم، ويتكبَّر ويتجبَّر على الضُّعفاء مِن خَلْق الله تعالى، وليس التائب من إذا خلا بمحارم الله انتهكها، وإنما تلك ظُلُمات بعضها فوق بعض، ولا نَحسَب التائب كذلك، ولا نُزكِّي على الله أحدًا، ومع ذلك لا يُجعل التائب هدفًا للمتربِّصين، فلا يَصدر منه شيء إلا واتَّهموه بما فيه، وبما ليس فيه؛ فهو بشرٌ يُخطئ ويُصيب، فليس ملَكًا كريمًا، ولا نبيًّا معصومًا، ولا مِن أُولي العزم من الرُّسل، وإنَّما يَصدُقُ فيه قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].
فمهما طال العمر أو قصُر، فالعبد في امتحان - إمَّا صابرًا محتسبًا، أو شاكرًا حامدًا لله تعالى - والحيُّ لا تؤمَن فتنتُه، نسأل الله تعالى أن يثبِّت قلوبَنا على دينه، ويَصرِفها إلى طاعته ما حَيينا، ويُحسن خواتيمَنا بجوده وكرمه؛ ففي صحيح الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الدِّين يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه، فسَدِّدُوا وقاربُوا، وأبشرُوا، واستعينُوا بالغَدوة والرَّوحة، وشيءٍ مِن الدُّلجة)).
ولا يزال التائب في معيَّة الله تعالى وحفظه، ما دام موحِّدًا لله ومتصلًا به سبحانه؛ قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62]؛ فإيمان وتقوى يثمر ولاية الله بتوفيقه وحُسن عونه، ورحِم الله القائل:
إذا لم يكن عونٌ مِن الله للفتى ♦♦♦ فأوَّلُ ما يَجني عليه اجتهادُه
وفي الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرَني في ملأ ذكرتُه في ملأ خيرٍ منهم، وإن تقرَّب إليَّ بشبرٍ تقربتُ إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقرَّبت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هَرولةً)).
والتائب رقيق القلب، سخيُّ الدمع، حريصٌ على مرضات الله تعالى.
ولنا في رسولنا صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، والصحابة من بعده والتابعين أهل القرون المفضلة، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الفاتحة: 21]؛ فإن التوبة إقلاع وندمٌ، وعدم رجوع للمعاصي، وتحلُّل من تَبعات الناس، نسأل الله المعافاة، فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتجاوز استغفارُه السبعين إلى المائة في المجلس الواحد، وهو الذي غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؛ ففي صحيح الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله إني لأَستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)).
وفي صحيح الإمام مسلم عن أبي بردة قال سمعت الأغر - وكان من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم - يحدِّث ابن عمر رضي الله عنهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((يا أيها الناس، تُوبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)).
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8]، وكذلك قال الله تعالى: ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أحبَّ الله العبدَ نادى جبريل إن الله يحبُّ فلانًا فأحْبِبه، فيُحبه جبريل، فينادى جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحِبُّوه، فيُحبه أهل السماء، ثم يُوضَع له القَبول في الأرض))، والله تعالى يحب التوابين ويُحب المتطهرين؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]، وعند الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبَّه؛ فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يَبطِش بها، ورِجله التي يَمشي بها، وإن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه، وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله، تردُّدي عن نفس المؤمن، يَكره الموت وأنا أَكره مُساءَتَه)).
وما زال التائب نادمًا منكسرَ القلب، يتقرَّب إلى الله بالفرائض والنوافل؛ حتى يُرضي ربَّه، فيُحبه أهلُ السماء، ثم يُجعل له القَبول في الأرض، فهذه نُبَذٌ من ثمار التوبة والرجوع إلى الله تعالى، لمن كانت بدايته مُحرقةً ونهايته مشرقة بإذن الله تعالى، ولِمَن حثَّ الخطى مسرعًا في الهجير وفي ظلمة الليل؛ ليسير إلى الله تعالى، فقطَعَ المفاوز والقِفار ليصل إلى مبتغاه، وكذلك الداعي يسأل الله تعالى الفردوسَ - أوسط وأعلى الجنان - ولسان حاله يقول:
ركضًا إلى الله بغير زادِ
إلا التُّقى وعمل المعادِ
والصبر في الله على الجهادِ
وكل زادٍ عُرضة النَّفادِ
غير التُّقى والبِرِّ والرَّشادِ