ـ 1 ـ |
وطني راحل في الضباب وسبابة الشعر فيه تشير إلى الشمس ، |
وأجنة أطفال ٍ بلا ملامح تندلق من صخور جباله ، |
وقد أصيبت بحمى مدنية تـُنشد : |
حان أوان خروجنا إلى اخضرار ٍجذوره في الغيوم، |
لنتعبّأ بين التراب ، |
من أجل العودة إلى فضاء ٍ لنا فيه زهو جبل |
عنده مفاتيح الماء لا يملكها إلا هو ، كل عين قصيدة ، |
وكل رشفة رؤية لأحلام الدم اللاهث ، |
وكل شعاع ٍ آية ، |
والمنارات سور ٌ من قرآن ٍ ليليّ ٍ يرتله المد لجون في خشوع ٍ، |
ومع كل قنديل تنزل السكينة في قلوبهم ، |
وخلف التراب الذي نتسلح لحمايته بالعيون ، |
والخطوات التي تتقدم ، |
والآيات المشعّة ومنارات يوحي أو يفاجئنا بها الليل ، |
فيعرينا إن تقاعسنا فلم نسع إلى التربة بأعضاء ذكورة حديدية |
لإخصابها بفحولة قد تزول عنا إن أسأنا فلم نشبع ظمأها |
الذي يتوهّج في غناء جيل قادم من الفلاحين إلى بلادي الهاربة في الجدب ، الخائفة من مواجهة صريحة مع وجوه الغد المتعددة، |
هما وجهان ليس أكثر: غاصب ومغتصب ، |
ونجاهد من أجل فعل لا يديننا ويدين الاضطهاد . |
غصبتنا عصابة السوء أرضا ليس سهلا ضياعها ، |
كيف يمسي ما نعاني من غربة عاديا ؟ |
من منا الذي لا يعرف من تحدّانا بتهجيرنا جموعا ، |
قضى بالذل المشين علينا، |
فانكشف أيها المكان عن المدهش من فعل ٍ ممعن في التحدي ، |
بين أهلي متاهة ، وهنا عمري الذي يذوي ورده في اغتراب ٍ، |
يسأل النبع والتراب وآيات الخروج المشعة : الفعل والأغنية ، |
الفرحة الكبرى لن تأتي قريبا ، |
وفجرنا في البدايات سيبدو وجها مريبا ، |
هل نرى في الضياء وجها حبيبا ؟ |
وطني ماخر عباب الدخان أين يمشي ؟ سبابة الشعر فيه ، |
في طريق ٍ تشير لي نحو شمس ٍ ، نحن لا نمشي نحوها ، |
أيّ أجيال ٍ ستنمو في ظلمة الدرب منذ الآن ؟ |
إني أعطيت ُ عيني لبلادي : |
عين أجيالنا التي من غد ٍ سوف تجيء ُ بالأمنيات |
وأفراح شيوخ ٍ أحفادهم حققوا الحلم بنار إبداعهم والتحدي |
ها نفضت ُ عن خطوتي ألم القيد وأعطيت ُ من معي كلـْمة السر ، |
تركتُ زنزانتي وأنا الآن وليدٌ في قبضتي نار حقدي . |
ـ 2 ـ |
إذ يسيل دمي نافرا بين أحجار هذي الكهوف |
تشعّ نجوم على الأرض تسعى لأسواقها ، |
بعضها لا يشع :الكآبة والفقر لا يمنحان الكواكب إيماضة ، |
تتمدّد نار الحروب ، |
كما يتدفــّــق سحر المعادن مالا على وجه أرضي ، |
يزيّــف أخبارها الأغنياء ، |
إذا شاء حملي الجواسيس للسجن ها أنذا أتغنى ، |
وأدفع أغنية للجماعة نحو الرياح ، |
وأهتف :إن الذي يتراكم على موائدهم عرق الفقراء ، |
وإن الذي يتوهّـج فوق تيجانهم ضحك مغتصب . |
هذه مدن الفقراء يجلـّـلها بالسواد الصباح الوشيك ، |
تأهّب في رحم الليل فيهااندفاق ٌ سينهلّ بالأغنيات ، |
ويخرج أبناؤها شاهرين سيوفا على من يزيّـف |
إشراقة ً ، زارعا في الجفاف بساتين أمنية غالية . |
ـ 3 ـ |
في انتظار طائر السعد نغنى نشيدا حزينا ، |
لا نتحرك ، نتعجّب من الحزن الذي يهاجم كالفيضان |
فيهلك الزرع والضرع ، فنصرخ : |
أيها الماء أتفيض احتجاجا |
أم من أجل أن تكتشف اليابسة لتمحوها ؟ |
وهل يتلقى الجياع القنابل العنقودية |
ليشبعوا؟ |
الآن نصير النار ونهاجم الأسلحة ، |
ونصير الجماهير ونهاجم هراوة البيروقراطية ، |
ونصير الجنوبيين ونهاجم بدل أن نكون هدفا للعدوان ، |
ونصبح مصر ونقمع أبا لمعة ، |
ونصبح التراب الهواء الماء النار ونهاجم ، |
من أجل أن نطرد الحزن ، |
من أجل أن تورق الأشجار بفرحة يقطفها الجميع ، |
فرحة تنهض إذ ننهض ، |
وتحرسنا حين نستريح |
في الحب |
أو الضحكة |
أو الرشفة ، |
للحب نقرب الينابيع البعيدة |
التي حرمت طفولتنا من ورودها ، |
ونؤسس للضحكة الإشراق والصفاء ، |
هذا مايستحق أن نموت من أجله |
حين نمنع من أن نفتح عينا |
بما يفعل الحرف أو برقصة اللون ، |
أو بالصرخة المضيئة على طريقة الصدى لا البرق ، |
ولا نخشى بعدها أن نكمّـم ، |
فالصرخة المضيئة منارة ، |
وصراخ الضوء |
خالد ، |
حتى وإن أتى خاطفا خاطفا ، |
كذلك كلمة الصدق مدوية |
وإن كـُمِّمَتْ أو أُجهضتْ ، |
لا تنتظر أن تنقشع الرعونة ، |
فالجبروت ظلمة لا ترحل إلا أمام قوة كالشمس |
التي يشير إليها الشعر في شفاه وطني |
الرازح غير راض ولا خاضع تحت نير الرعونة ، |
تتفتح براعم براعم من أجل التبشير بحكم العشب والسنابل ، |
من أجل طرد الجفاف |
والرعب |
والعناقيد التي تورق في النار . |
ـ 4 ـ |
هذا اختياري أن أكون مُشعا، |
وللجبال ألآن أن تحتويني قضية المؤمنون بها ليسوا طينة علوية ً، |
ودمهم ليس أزرق ، |
وليسوا من سلالة النجم أو ما فوقه ، |
ومع ذلك فما يشع هو إيماني ،فألتهب به، |
وأجمع نثير الضوء لأنفجر، |
أجمع الوهيج في عيني ، |
والأجيج في فمي ، |
لأرمي الحمم والقنابل على من يؤخرون الزحف ، |
ويقيمون أسوارا بين الطبقات ، |
وحين ندعو على المسرح بالسقوط، |
وعلى الرأس بالموت أو الابتعاد عنا ، |
نهاجم فردى وزرافات ، |
علانية ولا نعود نفاجأ بزيارات الفجر، |
بل نجلس في انتظارهم ، حازمين أمتعتنا ، |
فنضجر حين يتأخرون ، |
كما يضجر الواقفون على رصيف قطار |
يخلف الميعاد ، لكنه لا بد يجيء ، |
أردنا أم لم نرد ، |
ويتأخر ونفضل أن نعود ،لكنه يأخذنا فجأة ، |
وبدون رغبة منا ، |
مبالغة في عادة أفضل أن أكذب الآن |
وأقول :إنها كرم متأصل ٌ، |
حتى لا أغضبه ، |
فللرأس أكثر من أذنين ، ومن عينين |
ويعلم ما لا نعلم ،ويرانا ولا تدركه الأبصار ، |
وكفاني أني أزعجته بأن كنت مشعا وحليفا للمنارات ، |
وكنت صدى صراخها في متاهة الوطن ، |
وأن تشعّ قليلا خير من أن لا تندّ عنك نأمة ٌ |
تنمّ عن وجودك ، |
تلعن بها الظلام ن وللأعين بعد ذلك أن تصنفك : |
ـ فأنت زاحفٌ ، |
وهذا شرف لم يحظ به إلا مؤمنون |
زحفوا وحققوا بدء النصر ، وعلينا أن نكمل . |
ـ أو فأنت طائر ٌ ، |
وهذا مجد لم يظفر به غير جاجارين . |
ـ أو إنك راجلٌ ، |
وهذا ما يجب أن تحافظ عليه لتكون إنسانا عن جدارة . |
ـ 5 ـ |
من أجل أن يفيض ضوء هذه المنارة على الشاعر نفسه ، |
أحسّ بدبيبٍ في صدره ، |
يتحرك نحو رأسه ، |
وبدوار في الرأس يحرك ليسير نحو الجسد كله ، |
وتداعت إلى الذهن، وقد انتابت هذا الكائن ، |
رغبة في البكاء أو ما يوازيه ، |
بأن إخوته وأباه وأمه، وأقاربه جميعا ، |
يلاحظون أنه لا يحدثهم |
ـ هو وأصدقاؤه ـ |
في الشعر بما يضيء حياتهم اليومية ، |
أو يستضيء بها : ألا يقال إن كل قصيدة منارة ؟ |
فكيف تكون كذلك إذا كانت لا تأخذ أو تعطي شيئا ؟ |
أحس الشاعر وهو في لحظة تشبه الإغماء ، |
بأصوات الأقارب والأباعد تستصرخه وتستحثه |
أن ينغمر في الحياة لاكتشاف جوانبها الخلفية المظلمة ، |
وأن ينخرط في |
أحلام الأطفال |
والراشدين والرجال المكبلين بأكثر من حبل ، |
ورغم ذلك فهم يخرجون كل صباح |
من أجل أن يعودوا بشيء يحملون عليه ابتساماتهم ، |
حتى لا يقول طفل أنا بقرة ، ويأكل من الحشائش ، |
وحتى لا يلجأ راشد إلى ما يخدر عن قصد وسبق إصرار، |
قالت الأصوات للشاعر : |
يجب ألا تهمس للناس ، |
بل اصرخ بما يفرقون به بين العلم والخرافة ، |
دع للآخرين أن يقولوا :إن الشعر ذو أجنحة ، |
ولتقل أنت: بل هو ذو قدمين وعينين واسعتين، |
يمشي بهما إلى كل شيء ، ليرى ، ويصرخ احتجاجا ، |
فمن لا يَرَ لا يُرشدْ . |
هدأت الأصوات قليلا ، فسكتت ثمّ عادت لتهمس : |
إنك ترى يوميا ما يؤلم ، |
فلماذا لا تكون اللسان النابض في حنجرة الرفض ، |
أو الصوت الصارخ في المدينة ؟ |
كن صوت الرفض وهتاف الصمت ، |
وتكلم طويلا طويلا دون أن تمسك قيثارة ، |
كما كان المشهد يتطلب ذلك في القديم ، |
ودونما حاجة إلى جوقة أطفال أو نساء ، |
يمكنك الآن أن تمسك هراوة أو بندقية وتشرح ، |
أو تقف في حراسة من يشرح ، |
وفي عينيك بسمة تبعث الثقة في نفس من يتعلم ، |
بل إنها تبعث على الرغبة في الخروج إلى الشمس ، |
ورفع السواد عن جدران المدينة |
التي انغلقت أمامها دروب الغد ، |
ووجدت من يفتح لعا خط الرجعة ، |
أعداؤك أيها الشعر |
يعترضون دائما طريق من يريد السير نحو الغد ، |
وطرد السواد ، |
و القص من أجنحتك حتى لا تصبح أسطوريا ، |
ونحن نحدد لك الآن موطئ قدم على الأرض |
من أجل أن تضئ ، |
بما يجعل منك منارة نشعلها لوطننا في متاهته، |
التي لن تنهيها الرغبة أو مجرد النية الحسنة ، |
بل نهوض جماعيّ إلى قطع الألسنة والرؤوس ، |
علامات الأمس بيننا ، |
بدل أن تكون المنارات للأذان والصياح المنكر ، |
لتكن مصادر صراخ الضوء إلى فضاء تضيئه العواصف . |
ـ 6 ـ |
أيتها القرمطية التي تتجدد رؤيا ومظهرا ، |
أنت أيضا كنت تشعين ولازلت ، |
لماذا هاجرتنا |
وأعطيت للأعداء الطبقيين الفرصة لاتهامنا |
باستيرادك من هنا وهناك ، |
رؤيا ومظهرا ؟ |
أنشدي على وتر الكلاشن أغنيتك وقولي : |
إننا نولد تحت الضغط ، |
ونعلن عن الهوية بأن نشع ، |
تلك علامتنا الفارقة: |
أنذا أتقرمط الآن ولا أخشى من التهم الجنون والضلال ، |
بل أعتزّ بهما نياشين ، |
وأدرك أيضا ماذا وراء وصفهم نضالنا بالإرهاب ، |
وأنا لن أعيد الخطأ القاتل |
فأكرر اختطاف الحجر |
الأسود ، |
ولكنني أصحّـح بالتجربة ممارستي |
وأجعلهم هم من يختطفونه الآن ، |
أو ينقلونه إلى الرفيق الأعلى ، |
أو يخفونه كما يخفون عوراتهم وحقائق أخرى. |
أيها القرامطة يا رفاقي ، |
هناك أحجار أكثر سوادا يجب أن نختطفها ، |
وهي ما كان يجب اختطافه من قبل ، |
:تلك أحجار تقيم في صدور الأعداء |
يسمونها قلوبا ونسميها مجامع أضغان وقسوة ، |
وكل ما لا يتحرك لرؤية |
الذبح |
وبقر البطون |
وسمل العيون |
والعبور على قناطر النار ، |
ومشاهد غير ذلك أدهى وأفظع ، |
أيتها القرمطية يا هويتي التي تتجدد: اشتعلي ، |
ويا كلماتي انفجري من أجل انتفاضة تشتتهم شذر مذر ، |
ومن أجل حرب لا تبقي ولا تذر ، |
نتجابه فنضئ ، نكون من يرشد إلى شط النجاة . |
ـ 7 ـ |
إخلاصا مني لنظرية من احتجّ عليّ في الشعر ، |
أجلس لأحاور التاريخ واليومي ، |
ولأحدد النظر في ذاتي ، فأقرُّ بأخطائي ، |
وأعترف بأن ّ الطرق انقطعت بيني وبين بيتي ، |
وبين بيتي والشوارع المؤدية إليه ، |
وبيني وبين الرجال والأطفال الذين أعرفهم اسما اسما ، |
وبيني وبين شعاب الجبل ن وطرقات الأنهار، |
والبساتين المهملة ، |
والأسوار، |
وبائع النعناع ، |
ومتاعب المهنة ، |
وجوف الطقطوقة ، |
وعاملات الزرابي الصغيرات ، |
والحيوانات التي كانت تجاور بيتنا في الطفولة ، |
والباشا ، |
عمال القمامة ، |
والأمسيات الجميلة أمام الينابيع الثرة ، |
والله ، |
وحافلات السفر العمومي ، |
وبضع عاهرات عاشرتهن في شبابي الأول ، |
وشرطة الاختطافات ، |
وزوجتي ، |
ورئيس البلدية ، |
والبنايات القديمة التي فقدت رونقها ، |
والعمل السياسي ، |
وبعض الأشعار ، |
والنقابة ، |
والأصدقاء ، |
والمسؤولية ، |
وليلي السكر، |
والبطالة ، |
وأيام الجامعة ، |
وليالي افتقدتُ أنجمها |
لكنها رغم ذلك أمطرت خيرا وبركة ، |
وبائع الثياب المتجول ، |
وحفار القبور ، |
وهدايا العرس ، |
وآثار اختلاط الجنسين ، |
ومفعول التلفزيون ، |
وموسيقى اللهاث النافر الرافض ، |
قرّرت ُ أن أجري إلى اجتماع |
مع من يحتجّون عليّ في الشعر |
من أجل أن أقول بصدق ٍ : |
( إني مع الشعر الذي من صفته كذا وكذا ...إلخ . |
وضد الشعر الذي يزيّف ويستعدي ، |
ولا يسمي الأشياء بأسمائها ، |
فيعوي ككلب حين يخاطب النجوم ولا نجوم ، |
والجداول ولا جداول ، |
والبحار ولا بحار ، |
وينفث سمومه كأفعى حين يهاجم الإنسان المضئ ، |
والمنارات التي نشعلها في متاهة الوطن ) |
وأسعى إلى مدينتي |
بقصيدة فلا أعرف من أية طريق أذهب إليها ، |
فالظلمة تغطيها ، |
فأكتفي |
ببعث |
هذا الخطاب |
كسهم ٍ ، |
وأتبعه |
عائدا |
قادما |
كشعاع . |
- |
شفشاون في 20/05/1981 |