لأُمّي - إذا انسدلَ الليلُ - حُزنٌ شفيفٌ، كحُزنِ الحدائقِ.. وهي تُلملمُ في آخرِ الليلِ، أوراقَها الذابلةْ |
لأُمّي؛ سجَّادةٌ للصلاةِ، |
وخوفٌ قديمٌ من الدركيِّ، |
تُخبِّئُنا - كلّما مرَّ في الحيِّ - تحتَ عباءتِها |
وتخافُ علينا عيونَ النساءِ، |
وغولَ المساءِ، |
وغدرَ الزمانْ |
لأُمّي؛ عاداتُها.. لا تُفارِقُها |
فعندَ الغروبِ، ستُشْعِلُ "حَرْمَلَها"، عاطراً بالتمائمِ، |
يطردُ عن بيتنا الشرَّ - كانتْ تقولُ - وعينَ الحسودْ |
وكلّ ثلاثاء.. |
تمضي إلى مسجدِ السهلةِ |
توزّعُ خبزاً وتمراً |
وتنذرُ "للخضرِ" صِيْنِيَّةً من شموعٍ، |
إِذا جاءَها بالمُرادِ |
ستُوقِدُها - في المساءِ - |
على شاطيءِ الكوفةِ |
فأُبْصِرُ دمعتَها تتلألأُ تحت الرُموشِ البليلةِ |
منسابةً... |
كارتعاشِ ضياءِ الشموعْ |
ألا أَيّها النهرُ... |
رفقاً بشمْعاتِ أُمّي |
فنيرانُها... بعدُ لمْ تَنْطَفِ |
ويا سيِّدي "الخضر"... |
رفقاً بدمْعاتِ أُمّي |
ففي قلبِها... |
كلُّ حُزنِ الفراتْ |
* |
لأُمّي، مِغْزَلُها |
يَغزِلُ العُمرَ... |
خيطاً رفيعاً، من الآهِ |
كانتْ تَبُلُّ أصابعَها - إِذا انقطعَ الخيطُ من حَسْرةٍ - |
ثم تَفْتِلُهُ... |
فمَنْ ذا الذي، سوف تَفْتِلُ خيطَ الزمانِ... |
إذا ما تقطّعَ بالآهِ ـ يا قُرَّةَ العينِ ـ |
مَنْ ذا...؟ |
فما زلتُ في حضنِها... |
الناحلَ القرويَّ المشاكسَ |
أبكي إذا دارَ مِغْزَلُها بالشجونِ.. |
وأسمعُها في الليالي الوحيداتِ تشدو |
بصوتٍ رخيمٍ: |
"لبسْ خَصْر العجيج وخصر ماروجْ |
أنا روّجني زماني قبل ما اروجْ |
ولكْ لا تخبط الماي... يا روجْ |
بعد بالروح عتْبه ويه الأحبابْ.. |
......... |
لبس بالراس هندية وشيلهْ |
ودموع العين ما بطلنْ وشيلهْ |
تمنيت الترف.......... |
................. |
..........." |
........ |
وأُبْصِرُها خلْسَةً... |
ثم أرنو لقلبي..! |
أما زالَ يُشْجِيكَ موّالُها |
كلّما دارَ فيكَ الزمانُ... ودارَ |
ومرَّتْ على دربِكَ الآنساتُ الأنيقاتُ.. يا صاحبي |
وهي ترنو لمرآتِها!! |
جدول الشيبِ ـ يا للشماتةِ ـ |
ينسابُ مُتَّئِدأً في المروجِ |
فمَنْ يُرْجِعُ العُمرَ - هذا السرابَ الجميلَ - |
ولو مرّةً..؟! |
* * * |
28/6/1983 الكوفة |