بكيتَ فلم تترك لعيْنِكَ مدمعاً
مدة
قراءة القصيدة :
7 دقائق
.
بكيتَ فلم تترك لعيْنِكَ مدمعاً | زماناً طوى شرخَ الشباب فودّعا |
سقى اللَّه أوطاراً لنا ومآرباً | تقطَّع من أقرانها ما تقطَّعا |
لياليَ تُنْسيني الليالي حسابَها | بُلَهْنِيَة ٌ أقضي بها الحولَ أجمعا |
سدى غِرَّة ٍ لا أعرفُ اليومَ باسمه | وأعمل فيه اللهو مرأى ً ومسمعا |
إذ ما قضيتُ اليوم لم أبكِ عَهْدَه | وأخلفتُ أدنى منه ظِلاًّ وأفنعا |
فأصبحتُ أقتصُّ العهود التي خلتْ | بآهة محقوقٍ بأن يتفجَّعا |
أحِنُّ فأستسقي لها الغيثَ مرة ً | وأُثني فأستسقي لها العين أدمُعا |
لأحسنتِ الأيامُ بيني وبينها | بديئاً وإن عفَّت على ذاك مَرْجعا |
أعاذلُ أن أُعطي الزمان عِنانه | فقد كنتُ أُثْنِي منه رأساً وأخدعا |
ليالي لو نازعتُه رجْعَ أمسِه | ثنى جيده طوعاً إليَّ ليرجعا |
وقد أغتدي للطير والطير هُجَّعٌ | ولو أوْجستْ مَغْدايَ ما بتْن هُجَّعا |
بِخلَّين تمَّا بي ثلاثة إخوة ٍ | جُسومُهمُ شتَّى وأرواحُهمْ معا |
بني خلَّة ٍ لم يُفسد المَحْلُ بينهُمْ | ولا طمعَ الواشون في ذاكَ مطمعا |
مطيعين أهواءً توافت على هوى ً | فلو أُرسِلتْ كالنبلِ لم تعدُ موقعا |
تُجَلِّي عُيون الناظرين فجاءة ً | لنا منظراً مُرْوى ً من الحُسن مُشبعا |
إذا ما رفعنا مُقبلين لمجلس | طلعنا جميعاً لا نُغادر مطلعا |
كمنطقة ِ الجوزاءِ لاحت بسُحرة ٍ | بعقْبِ غمامٍ لائحٍ ثم أقشعا |
إذا ما دعا منه خليلٌ خليله | بأفديك لبَّاه مجيباً فأسرعا |
وإن هو ناداه سحيراً لدُلجة ٍ | تنبَّه نبهانَ الفؤاد سَرعْرعا |
كأن له في كل عُضوٍ ومَفصِلٍ | وجارحة ٍ قلباً من الجمر أصمعا |
فشمَّر للإدلاج حتى كأنما | تلُفُّ به الأرواح سمعاً سَمْعمعا |
كأنِّي ما روَّحتُ صَحْبي عشيَّة | نُساجل مُخْضرَّ الجنابين مُترعا |
إذا رنَّقتْ شمسُ الأصيل ونفَّضتْ | على الأفق الغربي ورساً مُذعذعا |
وودَّعت الدنيا لتقضي نحْبها | وشوَّل باقي عمرها فتشعشعا |
ولاحظتِ النُّوارَ وهي مريضة ٌ | وقد وضعتْ خدّاً إلى الأرض أضرعا |
كما لاحظتْ عُوَّاده عينُ مُدنفٍ | توجَّع من أوصابه ما توجَّعا |
وظلّتْ عيونُ النَّور تَخْضلُّ بالندى | كما اغرورقتْ عينُ الشَّجيِّ لتَدْمَعا |
يُراعينها صُوراً إليها روانياً | ويلْحظنَ ألحاظاً من الشّجو خشَّعا |
وبيَّن إغضاءُ الفِراقِ عليهما | كأنَّهما خِلاَّ صفاء تودَعا |
وقد ضربتْ في خُضرة ِ الروض صُفرة ٌ | من الشمس فاخضرَّ اخضراراً مشعشعا |
وأذكى نسيمَ الروضِ ريعانُ ظلِّه | وغنَّى مغنِّي الطير فيه فسجَّعا |
وغرَّد رِبْعيُّ الذباب خلاله | كما حَثحثَ النشوانُ صَنْجاً مُشرَّعا |
فكانتْ أرانينُ الذبابِ هناكُمُ | على شَدواتِ الطير ضرباً موقَّعا |
وفاضتْ أحاديثُ الفكاهاتِ بيننا | كأحسنِ ما فاضَ الحديثُ وأمتعا |
كأن جُفوني لم تبتْ ذاتَ ليلة ٍ | كراها قذاها لا تلائم مضجعا |
كأنِّيَ ما نبَّهتُ صحبي لشأنهم | إذا ما ابنُ آوى آخرَ الليل وَعْوعا |
فثاروا إلى آلاتهِمْ فتقلّدوا | خرائطَ حُمرا تحمل السُّمَّ مُنقَعا |
منمَّقة ٌ ما استودعَ القومُ مثلها | ودائعَهُمْ إلا لكي لا تُضيَّعا |
محمَّلة ٌ زاداً خفيفاً مَنَاطُهُ | من البُنْدق الموزُون قلَّ وأقنعا |
نكيرٌ لئن كانتْ ودائعُ مِثلها | حقائبَ أمثالي ويذهبْنَ ضُيَّعا |
علام إذاً توهي الحِمالة ُ عاتقي | وكان مصوناً أن يُذَالَ مُودِّعا |
وما جشَمَتْني الطيرُ ما أنا جاشمٌ | بأسبابها إلا ليجْشمن مُضلِعا |
فَلِلَّهِ عينا من رآهم وفد غَدَوْا | مُزبين مشهوراً من الزَّيِّ أرْوعا |
إذا نبضوا أوتارهم فتجاوبَتْ | لها زَفَراتٌ تصرعُ الطير خَوْلعا |
كأنَّ دَويَّ النحلِ أحرى دويَّها | إذا ما حفيفُ الريح أوْعاه مَسمعا |
هنالك تغدو الطيرُ ترتاد مصرعاً | وحُسبانُها المكذوبُ يَرتاد مرتعا |
وللَّه عينا من رآهُمْ إذا انتهوا | إلى موقف المَرْمى فأقبلْن نُزَّعا |
وقد وقفوا للحائناتِ وشمَّروا | لهنَّ إلى الأنصافِ سُوقاً وأذرعا |
وظلُّوا كأن الريحَ تَزْفِي عليهمُ | بها قَزَعاً ملءَ السماء مقزَّعا |
وقد أغلقوا عقد الثلاثين منهُمُ | بِمجدولة ِ الأقفاءِ جدلاً موشَّعا |
وجدَّتْ قِسِيُّ القوم في الطير جِدَّها | فظلَّتْ سجوداً للرُّماة ِ ورُكَّعا |
هنالِكَ تلقَى الطَّيرُ ما طَيَّرتْ به | على كل شعبٍ جامعٍ فتصدَّعا |
وتُعقَب بالبين الذي برَّحتْ به | لكل مُحِبٍّ كانَ منها مُروَّعا |
فظلَّ صحابي ناعمين ببؤسها | وظلَّتْ على حوض المنيَّة شُرَّعا |
فلو أبصرتْ عيناك يوماً مُقامنا | رأيتَ له من حُلَّة الطير أمْرعا |
طرائحَ من سُودٍ بيض نواصعٍ | تَخَالُ أديمَ الأرض منهن أبقعا |
نُؤلِّف منها بين شتى وإنما | نشتَّت من ألاّفها ما تجمعا |
فكم ظاعنٍ منهن مُزِمِعِ رحلة ٍ | قَصرْنا نَواه دون ما كان أزمعا |
وكم قادمٍ منهن مرتادِ منزل | أناخَ به مِنَّا مُنيخٌ فجعجعا |
كأن لُبابَ التِّبر عند انتضائها | جرى ماؤه في لِيطها فَتريَّعا |
تراك إذا أَلقيتَ عنها بَنَاتِها | سَفَرْتَ به عن وجه عذراء بُرقعا |
كأن قَراها والفرُوزَ التي به | وإن لم تجدها العينُ إلا تتبعا |
مَزرُّ سحيقِ الورْسِ فوق صلاءة ٍ | أدبَّ عليها دارجُ الذرِّ أكرعا |
لها أولٌ طوعُ اليدين وآخرٌ | إذا سُمته الإغراقَ فيها تَمنَّعا |
تدين لمقرونٍ أمرَّتْ مريرَهُ | عجوزٌ صناعٌ لم تدع فيه مَصْنَعا |
تأيَّتْ صميم المتن حتى إذا انتهى | رِضاها أمرَّته مَرائر أربعا |
تَلذَّ قرينيه عقودٌ كأنها | رؤوس مدارَى ما أشدَّ وأوكعا |
ولا عيبَ فيها غير أن نذيرَها | يروع قلوبَ الطيرِ حتى تَصعصعا |
على أنها مكفولة ُ الرزق ثَقْفة ٌ | وإن راع منها ما يروع وأفزعا |
مُتاحٌ لراميها الرمايا كأنما | دعاها له داعي المنايا فأسمعا |
تؤوب بها قد أمتعتك وغادرتْ | من الطير مفجوعاً به ومُفجَّعا |
لها عولة ٌ أولَى بها ما تُصيبُه | وأجدرَ بالإعوال من كان موجَعا |
وما ذاك إلا زجرُها لبناتها | مخافة َ أن يذهبن في الجوِّ ضُيَّعا |
فيخرجن حَيْناً حائناً ما انتحينَه | وإن تَخذ التسبيحُ منهن مَفْزعا |
تقلبُ نحو الطير عيناً بصيرة ً | كعينكَ بل أذكى ذكاء وأسرعا |
مربعة ً مقسومة ً بشباكها | كتمثال بيت الوشْي حيك مُربَّعا |
لإبدائها في الجو عندَ طحيرها | عجاريفَ لو مَرَّتْ بطودٍ تزعزعا |
تقاذفُ عنها كلُّ ملساءَ حدرة ٍ | تمر مروراً بالقضاء مشيَّعا |
أمونٍ من العظعاظ عند مروقها | وإن عارَضَتْها الريحُ نكباء زعزعا |
يحاذرها العفريتُ عند انصلاتها | فيُعْجله الإشفاقُ أن يتسمَّعا |
تقول إذا راع الرميِّ حفيفُها | رويدك لا تجزعْ من الموت مجزعا |
فإن أخطأته استوْهلتهُ لأختها | فَتلْحَقُه الأخرى مَروعاً مُفزَّعا |
وإن ثقفَتْه أنفذته وقدّرتْ | له ما يوازيه من الأرض مصرعا |
فيقضي المُذكِّي في الصريع قضاءهُ | وهاتيك يأبى غرْبُها أن تُورَّعا |
أتتْ ما أتتْ من كيدها ثم صمَّمت | تدرُّ دريراً يخطفُ الطير ميْلعا |
كأن بنات الماءِ في صرح مَتْنه | إذا ما علا رَوْقُ الضحى فترفَّعا |
زاربيُّ كسرى بثَّها في صِحانِه | ليُحضرَ وفداً أو ليجمع مَجمعا |
تُريك ربيعاً في خريفٍ وروضة ً | على لجَّة ٍ بدعاً من الأمر مُبدعا |
تخايلُ فوق الماء زهواً كما زهت | عوائدُ عيدٍ ما ائتلين تصنُّعا |
تلبَّسُ أصنافاً من البزِّ خلعة | حريراً وديباجاً وريْطاً مُقطَّعا |
فبيْن خُيابوذٍ زهته شياته | فزيَّنه ريشٌ تراه موزَّعا |
يمدُّ إليه حسنُه وجمالهُ | خلال بناتِ الماء عيناً وإصبعا |
وأخضرَ كالطاووسِ يُحسبُ رأْسهُ | بخضراءَ من حُرِّ الحرير مقنَّعا |
يتيه بمنقارٍ عليه حبائلٌ | تخيَّلن في ضاحيه جَزْعاً مجزَّعا |
يلُوح على إسطامه وشيُ صُفرة ٍ | ترقَّش منها متْنُه فتلمَّعا |
كملعقة ِ الصِّينيِّ أخْدَمَها يداً | صَناعاً وإن كانت يدُ اللَّه أصنعا |
وعينين حمراوين يطرفُ عنهما | كأن حجاجيه بفصَّين رصِّعا |
ومن أعقفٍ أحذاه مِنقارُهُ اسمه | أضَدَّ بديعُ الخلقِ فيه فأبدعا |
مزينٌ بسربالٍ من الريشِ ناصعٍ | له زِبرجٌ يحكي الثَّغامَ المترَّعا |
مشينَ بجيدٍ ذي سوادٍ وزُعرة ٍ | ورأْسٍ شبيه الجيد أسودَ أقرعا |
مطرَّفُ أطرافِ الجناحِ كأنَّه | بنانُ عروسٍ بالخضابِ تقمَّعا |