أرشيف المقالات

نفوس عالية

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
نفوس عالية

 
تُعجِبُني تلك النفوسُ الزاكية، وتلك الهمم العالية، ما إن تبدأ بالتعامل معها حتى تشعُر بالسمو والأخلاق الرفيعة، إنها تلك النفوس الطاهرة التي أحبَّت الاقتداء بصدقٍ، أحبت الاتِّباع لا الابتداع، وجدَتْ أن صلاحها يكمُنُ فقط في بصيرتها وسَعَة أُفُقِها.
 
فمَن منا يجهل أن الدنيا إلى فناء؟
مَن منا لا يعلم أن الدنيا - بكل ما فيها من مغريات ومُلهِيات - لا تساوي عند الله جناح بعوضة؟! لكنا أحيانًا نتناسَى ليدومَ لنا الهناء، وليتَه يدومُ؛ فمنغِّصات الدنيا أكثر بكثير مِن نِعَمِها، ومُلهِياتها قليلٌ وقتُ إسعادها لنا، شحيحةٌ هي بما يلهث وراءه البشر، وربما الحكمةُ من هذا: الحثُّ على عودتنا، العودة إلى بداية الفطرة النقيَّة، إلى حيث الغاية التي من أجلِها خُلِقنا.
 
تعالوا معًا نُعدِّد متاع الدنيا الزائل:
"الطعام" مثلًا، فهل لذة الطعام في الفم لذةٌ دائمة؟ أو الإحساس بالشبع إحساس طويل المدى؟
بالطبع لا، هذا إن لم يكن هناك منغِّصات مَرَضية تعوقُ الهضم، أو تؤثِّر على الصحة سلبًا بعد تناول ما لذَّ وطاب، ثم ما لبث أن غاب، فهل ضمِنت العيش للوجبةِ القادمة؟
 
متاع آخر "الملبس"، فلو لبِسنا أفخرَ أنواع الثياب، ألا يوجد أفخمُ أو أحدث أو أجمل؟
بلى يوجد.
ولو فرضنا فرضًا أننا حرَصْنا على اقتناء الأروع، فكم يمكثُ قبل أن يتَّسِخ ويحتاج إلى غسل وعناية وتبديل وتغيير؟
وهل تضمن العيش حتى تُبدِّل به آخر؟
وقِسْ على هذا جميع المباحات.
 
لهذا كان مِن قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل مِن جُهينة: ((مالُك أحبُّ إليك، أم مال مولاك؟))، قال: مالي يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((فإنه ليس لك مِن مالك إلا ما أكلت فأفنيتَ، أو لبِست فأبليتَ، أو أعطَيت فأمضَيتَ، مالك لك، وللوارثِ، وللثَّرى، فلا تكن شرَّ الثلاثة))؛ الحديث.
 
فكلٌّ إلى زوالٍ، وما يبقى إلا ما كان لله، وأما كل حلال يستعين به الإنسان على طاعة الله، فمأجورٌ عليه أيضًا، فيظل العمل هو العمل، وتختلف النيات وطريقة التنفيذ؛ فإما أن يكون فتنةً لك ولمَن حولك، وإما أن يكون عونًا لك على مسيرةِ الحياة وَفْقَ طاعة الله، بل وتُؤجَر على فعله أيضًا، وكلنا ذو خطأ، وكلنا مقصِّرٌ، ولا ندَّعي أبدًا العصمةَ، ولكنا نتَواصى فيما بيننا، ونجدُ أناسًا مِن هذا الزمان على نفسِ النهج يسيرون، "نفوس عالية"، أقلُّ ما توصف به هو علوُّ الهمة والرقي في التعامل.
 
لا يصدَّنك قلةُ السالكين في هذا الدرب، ولا يغرَّنك كثرةُ السالكين في شتى الدروب التي تشعُرُ فيها النفوسُ العالية بالغربة، ولسان حالهم يقول: "أنا لا أنتمي إلى هنا"، أنا لست منهم، لست مثلَهم، لا أستطيع مجاراتهم!
ولِمَ تُجاريهم؟!
 
كن أنت البداية إذ لم تجد فيمَن حولك النموذج للبَدْء، وليكُنْ قدوتُك هو خيرَ البشر نبي الرحمة محمدًا صلى الله عليه وسلم، ولو أنك لو بحثتَ حولك فلن تَعدِمَ مثلَ هذه النفوس الزكية العلية المثمِرة، نماذج في كل وقت وحين ستجدها، ولا ضير أنهم ليسوا تحت الأضواء، ولا عيب فيهم قلة متابِعيهم، أو كثرة معارضيهم، أو انزواؤهم عن الظهور والتلميع، لكن الحق أحقُّ أن يُتَّبع، فكل ما وافق الحقَّ كان أحقَّ وأحبَّ إلى قلوبنا، لا إفراط ولا تفريط؛ فنبيُّنا صلى الله عليه وسلم كان قرآنًا يمشي على الأرض؛ آدابًا وأخلاقًا ومعاملاتٍ، تطبيقًا، تحفيزًا، كلها عوامل شخصية وسطية ناجحة بكل المقاييس، تسعى إلى نفس عالية.
 
ودمتم طيبين

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣