أرشيف المقالات

أيام العشر : هلم يا بلال

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
يا بلال
التفت الرجل داكن البشرة إلى مصدر الصوت الذى يناديه فى ذلك اليوم المهيب
من ؟
إنه حبيبه و قرة عينه
هل مر اليوم بهذه السرعة ؟!
لقد كان ينظر إليه قبل قليل و هو فى وقفته المنكسرة بين يدى مولاه منذ الظهيرة يرفع يديه فى ضراعة المسكين و يبتهل ابتهال الخاضع الذليل طوال نهار ذلك اليوم العظيم فى ذلك الشهر الحرام فى هذا البلد الحرام
يوم عرفة
ها هى الشمس قد غربت أو كادت و هاهو يناديه
لبيك سيدى و قرة عينى و حبيبى
يا بلال أنصت لى الناس
انطلق مؤذن الحبيب لينادى الصحب و الآل المنتشرين على صعيد عرفات ما بين مبتهل و باك و ضارع إلى ربه يناجى
هلموا إلى إمامكم و أسوتكم و هاديكم و قدوتكم فهو لا شك يطلبكم لأمر عظيم
اجتمع الخلق من كل حدب و صوب و وقفوا جميعا بين يدى رسولهم صلوات ربى و سلامه عليه ينتظرون و قلوبهم متشوقة لماذا جمعهم و أنصتهم قبل الإفاضة إلى المشعر الحرام
" معشر الناس أتاني جبرائيل عليه السلام آنفا فأقرأني من ربي السلام؛
وقال : إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات؛"
الله أكبر الله أكبر
ياله من فضل و يالها من بشارة
ربهم الذى باهى بهم الملائكة اليوم و قال لهم فى تلك العشية المباركة : عبادي جاؤني شعثا من كل فج عميق ، يرجون جنتي ، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل ، أو كقطر المطر ، أو كزبد البحر ؛ لغفرتها .
أفيضوا عبادي مغفورا لكم ، ولمن شفعتم له (1) 
الآن يذكرهم مرة أخرى و يبعث جبريل فى ذلك اليوم العظيم ليخبر سيد ولد آدم عليه السلام بتلك البشارة الجليلة
سبحانك ربى سبحانك ما أعظم شأنك
ما ألطفك و أكرمك و أحلمك
فشا السرور فى الجمع المبارك و تهللت الأسارير بالقول الحسن و صاح من بين الجمع رجل ...
إنه ليس أى رجل
إنه فاروق الأمة و وزير رسولها
إنه عمر رضى الله تعالى عنه
صاح مناديا يسأل و يطمئن على إخوان له لم يرهم
قال الفاروق مستفهما : يا رسول الله هذا لنا خاصة ؟
«قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بل لكم و لمن جاء من بعدكم إلى يوم القيامة ما إن سمع عمر تلك الكلمات تخرج من الفم الشريف حتى صاح و قد تهلل الوجه و ساد الانشراح: كثر خير الله و طاب  كثر خير الله و طاب » (2)
نعم
صدقت يا عمر
كثر خير الله و طاب
و اشرأب الفضل و زاد
و تضاعف المن و فاض
كلمات يسيرة قالها الفاروق لخصت معنى من أهم المعانى التى ينبغى للناسك أن يعيها فى سيره إلى مولاه
كلمات تحمل أسرارا عظيمة و فضائل كريمة
كثر خير الله و طاب
كلما تأملت فى آيات المثوبة و أحاديث الفضائل و المكرمات تتأكد لديك تلك الحقيقة
تتأكد و تتيقن أكثر فأكثر أن ربك شكور كريم ذو فضل عظيم .
مع كل نفحة من نفحات ربنا لابد من تذكر هذا المعني
معنى شكر الله لعباده الطائعين و كثرة خيره و فيض ثوابه
إن شكر الله موضوع هائل لا يستطيع أحد الوفاء بحقه في أسطر قليلة 
وإن المرء ليذهل حين يتأمل قدر الشكر فى مقابل العمل
الله يشكر علي العمل القليل بالجزاء الجزيل وهذا هو معني الشكر لغة وشرعا
في اللغة الشكر هو الزيادة يقال دابة شكور إذا أعطت النتاج الكثير الوفير مع العلف القليل وهو معنى لغوى يستقيم مع المعنى الشرعى الذى كثرت عليه الأدلة من الكتاب والسنة كقوله تعالى {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌشَكُورٌ}
فالشكور جل وعلا من معانيه السامية أنه هو الذى يغدق على عباده الطائعين بالجزاء الجزيل على العمل القليل {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}
غالبا ما تجد معنى الشكر فى القرآن مصحوبا بالزيادة و المضاعفة { إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}
إن أقل الأعمال و أهون القربات تورث ما لا يسعنا وصفه من الخيرات و الحسنات
و تلك الأيام التى نحن مقبلون عليها بعد قليل – أيام العشر الأول من ذي الحجة - لهي نموذج لذلك القدر العظيم 
أيام يستطيع العامل فيها و يمكن للطائع من خلالها أن ينافس المجاهد فى سبيل الله 
المجاهد !!
ذلك الذى ارتقى ذروة سنام الدين و عمل العمل الذى لم يجد النبى صلى الله عليه و سلم شيئا يعدله به لما سئل عن ذلك؟؟
نعم 
تستطيع أن تنافسه بل تتفوق عليه إلا رجل خرج بنفسه و ماله فلم يرجع من ذلك بشىء 
هذا فقط من لا تستطيع أن تتخطاه بعملك فى تلك الأيام كما ثبت عن خير الأنام
إنها حقا أيام مختلفة 
أيام فارقة 
قال عنها حبيبك صلى الله عليه و سلم أنها أفضل أيام الدنيا 
هكذا تفضيل بإطلاق يجعلك تفكر 
هل معنى ذلك أنها أفضل من أيام رمضان ؟؟
فتجد فريقا كبيرا من أهل العلم يجيبك بثقة : نعم هى أفضل بنص ذلك الحديث محكم اللفظ 
أيام أقسم الله جل و علا بها فى كتابه فقال " و الفجر و ليال عشر " و الليالى العشر على قول جمهور المفسرين هى عشر ذى الحجة 
بل فيها يوم يكفر صيامه عامين 
يوم واحد بعامين !!
تخيل 
إنه يوم عرفة الذى قدمت الكلام عنه و الذي يقبل علينا إن شاء الله بعد ساعات
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صيام يوم عرفة: (يكفر السنة الماضية والسنة القابلة)» [رواه مسلم في الصحيح]
ما أعظم هذا الكرم وما أطيب نفحات الله
والله إن المرء لا يجد من الكلمات ما يعبر به عن هذا الفضل الكبير إلا قول الفاروق مرددا معه بكل جوارحه
كثر خير الله وطاب….
كثر خير الله وطاب
أليس هذا الحديث وما كان على شاكلته مدعاة للتفكر و التأمل و التساؤل 
ما الذى فعله الصائم ليستحق كل هذا الفضل؟
تكفير سيئات عامين كاملين ببضع سويعات من الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة؟
هل بذل هذا الممسك مجهودا خارقا للعادة أو ضحى بنفسه أو ماله لينال هذا الفضل العظيم ؟
الجواب لا بل عمل عملا سهلا يسيرا أطلق عليه السلف الغنيمة الباردة
إن مجرد تذكر هذه الذنوب التي أقترفناها في عام كامل مضى أمر مرهق بل قد يكون مستحيلا علي بعض الناس عد ذنوبهم فما بالك بأنك لن تعد و حتي لن تتذكر
بهذه السويعات القليلة تنال مغفرة كل تلك الذنوب (عدا الكبائر التي تحتاج إلي توبة منفصلة).
لا شك أنه ليس من سبب لذلك والذى لا إله غيره إلا قوله سبحانه { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}
أنا إن تبت مناني وإن أذنبت رجاني
وإن أدبرت ناداني وإن أقبلت أدناني
وإن أحسنت جازاني وإن قصرت عافاني
إن تذكر هذا المعني لابد أن يملأ القلب بالحماس والرغبة في المتاجرة مع الشكور جل و علا 
الشكور الذي يربحك أعلي الأرباح علي أقل الأعمال وليست فقط هذه الغنيمة الباردة هى ما يُنال به هذا الأجر الهائل بل مثلها كثير
فصيام يوم عرفة يكفر عامين عاما قبله وأخر بعده.
وصيام يوم عاشوراء يكفر العام الذى قبله.
والصلاة إلي الصلاة كفارة لما بينها.
والجمعة إلي الجمعة و رمضان إلي رمضان والعمرة إلي العمرة كذلك يكفرون.
وكم عمل بسيط وذكر يسير يكفر أعتي الذنوب
فها هي مئة تسبيحة بحمد الله تكفر ذنوبك ولو كانت كثل زبد البحر
وها هو استغفارك للمؤمنين والمؤمنات تنال به أكثر من " مليار " حسنة بكل مؤمن حسنه
وذكرك في السوق موطن الغفلات و مرتع الشهوات تنال به "مليون" حسنة ويحط عنك "مليون" خطيئة وترفع به مليون درجة ويبني لك بيتا في الجنة نعم والله مليون كما صرح بذلك النبى بلفظ ألف ألف.
وصلاتك ووضوءك وعيادتك للمريض وغير ذلك من الأعمال اليسيرة التي لها من الفضائل ما لا نستطيع حصره فى هذه السطور ومكانها كتب الفضائل و إن شئت فانهل ولاتبخل على نفسك بالعشرات بل المئات من أسباب المغفرة التى لاتقل إن لم تزد عن فضائل تلك الأيام الحاسمة التى نحن مقبلون عليها .
إن كل ما ذكرته من النعم والفضائل والنفحات ليملأ القلب بالفرح بالله والاعتزاز بهذا الدين “قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون”
و كلما مرت الساعات ازداد الاشتياق و تضاعف اللهفة لتلك اللحظات الغالية التى لا أكون مبالغا لو قلت أنها لحظات مصيرية فى حياة المسلم و مستقبله
أما أشد ما يحزن المرء أن يجد كثيرا من الناس لا يقدرون هذه الأيام حق قدرها و لا يتعاملون معها من منطلق الفرصة الذهبية و الصفقة الرابحة و تجد أن علاقتهم بالعمل الصالح فيها لا تدانى علاقتهم به فى رمضان رغم أنها أيام كما سبق و أوضحت لا تقل عنه فضلا إن لم تزد 
إن من الأدب مع الله جل و علا أن يتعرض العبد لنفحاته و يقبل عطياته و هباته و من تلك النفحات هذه الأيام التى نحن مقبلون عليها 
المؤمن الذى يوقن باسم الله الشكور و يرجو أن يتعبد لمولاه بمقتضاه و يعلم علم يقين أن خيره قد كثر و طاب لابد أن يحاول جاهدا أن ينهل من هذا الخير و يدرك هذا الفضل 
هذه أيام عمل إن حرم العبد فيها أعظم أعمالها و هو حج بيت الله فليس أقل من أن ينافس الحجيج و العمَّار فى نفسياتهم المتوقدة و إقبالهم الجميل الذى يرفعون فيه شعار " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك " 
ألا فليلبى الماكث بقلبه و ليرفع شعار الكليم عليه السلام و إن كان فى قعر بيته قائلا " و عجلت إليك رب لترضى "
فليكن العمل الصالح بكل أنواعه سبيلك و معقد عزمك فى تلك الأيام القليلة المتبقية تتنقل بين واحات الصيام و القيام و القرآن و تنهل من عيون التحميد و التكبير و التهليل و تتنسم عبير الصدقات و صنائع المعروف و لا تحرم نفسك من باب من أبواب الخير تلقى فيه بسهمك إن استطعت إلى ذلك سبيلا 
و لتكن دوما كلمات الفاروق نصب عينيك فى تلك الأيام بلغنا الله إياها 
كثر خير الله و طاب 
فيا مريدي الخيرهلموا إلي عظيم الأجر وجزيل الثواب فقد كثر خير الله و طاب
________________________________________
(1) (حسنه الألبانى فى صحيح الترغيب من حديث عبد الله بن عمر)
(2) ( أصل الحديث رواه أبو يعلى و بن عبد البر و صححه الألبانى فى صحيح الترغيب 


شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢