أرشيف المقالات

من وقع في بدعة أو فسق متأولا

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
من وقع في بدعة أو فسق متأولاً


قال الله الرحمن الرحيم بعباده المؤمنين: ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 5]، وعلَّم الله المؤمنين هذا الدعاء: ﴿ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، قال الله الرحيم بعباده: " قد فعلت " كما في صحيح مسلم.
 
والخطأ نوعان: ضد الصواب وضد العمد، ولا إثم على من أخطأ في النوعين إن لم يتعمد المشاقة للرسول ولم يتعمد اتباع غير سبيل المؤمنين، فمن أقدم جاهلا جهلا بسيطا أو مركبا على فعل أو قول مفسِّق مظنون أو مقطوع فإنه يعذر بالجهل سواء اعتقد الإباحة أم لم يعتقد شيئا، فالإقدام مع الجهل يمنع من التبديع والتفسيق والتكفير، وقد قرر هذا أهل العلم في كتب أصول الفقه، انظر مثلا جمع الجوامع للسبكي بشرح الجلال المحلي مع حاشية العطار (2/ 178).
 
فأهل العلم المنصفون يعذرون من أخطأ من العلماء ولو كان خطؤه في المسائل التي لا يسوغ فيها الاجتهاد، إذا كان معروفاً بالعلم والصلاح وكان متأولا تأويلا ظنه سائغاً، مع نصحه إن كان حياً وبيان خطئه حتى لا يُتَّبع في زلته، وهذا من إنصافهم وعدلهم حتى مع من وقع في بدعة أو مفسِّق، فالعلماء الراسخون أرحم الناس بالناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ذكر الخلال في كتاب العقيدة لأحمد بن حنبل ص120 قال: وَكَانَ أحمد لَا يفسق الْفُقَهَاء فِي مسَائِل الْخلاف.
 
قال الشاطبي: " الابتداع من المجتهد لا يقع إلا فلتة، وبالعرض لا بالذات، وإنما تسمى غلطة أو زلة، لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الكتاب، أي لم يتبع هواه ولا جعله عمدة، والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق أذعن له وأقرَّ به " ا.هـ من كتاب الاعتصام ص 114 بتصرف.
 
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/ 376): " ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده - مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق - أهدرناه وبدَّعناه؛ لقلّ من يَسْلم من الأئمة معنا".
 
وقال العلامة المقبلي في العَلَم الشامخ ص414: " ومن المعلوم أنه ليس من الفرقة الناجية أن لا يقع منها أدنى اختلاف، فإن ذلك قد كان في فضلاء الصحابة، إنما الكلام في مخالفة تصير صاحبها فرقة مستقلة ابتدعها".
 
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (5/ 239): " إن المتأول الذي قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُكفَّر ولا يُفسَّق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويُكفِّرون من خالفهم".
 
وقال شيخ الإسلام في معرض رده على الأشاعرة: " ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له مساع مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف..
وخير الأمور أوسطها..
والله يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]" اهـ من كتاب درء تعارض العقل والنقل (2/ 102 - 103) باختصار.
 
وقال أيضاً: " إذا قال المؤمن: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10] يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل مخالف للسنة، أو أذنب ذنباً، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفاراً بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحق عصاة المؤمنين" ا.هـ من منهاج السنة النبوية (5/ 240).

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير