الموازنة بين المصالح والمفاسد
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
الموازنة بين المصالح والمفاسدفقه الموازنات:
تبرز العلاقة بين فقه الأولويات وفقه الموازنات بما يتناوله الأخير من الموازنة بين المصالح المشروعة بعضها البعض، أو المفاسد الممنوعة بعضها البعض، أو المصالح والمفاسد إذا تصادمت وتعارضت بعضها البعض.
وقوة الرابط بين الفقهين هي: "أن يعرف "المكلَّف" مراتب المصالح والمفاسد، وما يحبه الله ورسوله"[1].
والحق أن أحكام الشريعة لا تخلو من أحد أمرين: إما تحقيق مصالح الناس، أو دفع المفاسد عنهم "فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل"[2].
المصالح الشرعية لا الأهواء البشرية:
وتقدير المصالح والمفاسد ليس أمرًا هينًا، بل هو في غاية الدقة؛ لأنه منضبط بضوابط الشَّرع ونصوصه وقواعده، ولا يصلح أن يقوم به إلا أهل العلم الأثبات، الذين عرفوا نصوص الكتاب والسنة، ودرسوا مقاصد التشريع الإسلامي وميَّزوا بين أولويات الأحكام، وعرفوا خير الخيرين وشر الشرين حتى يقدِّموا عند التزاحم خيرَ الخيرين وشر الشرين في العمل.
"فالمصلحة المعتبرة هي ما جاءت وَفق ضوابط شرعية مبسوطة في كتب الفقهاء والأصوليين؛ فإن المصالح المجتلبة شرعًا، والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية؛ فإن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلَّفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادًا لله"[3].
وليس كل ما توهمه الناس مصلحة يكون كذلك؛ فليس من المصلحة في شيء - على الإطلاق - ما خالف دليلًا من الكتاب أو السنة أو عارض قاعدة محكمة من قواعد الشريعة، ولا يصح أن يكون المعيار في تحديد المصالح؛ موافقتها لأهواء الناس وشهواتهم، أو مراعاتها لعاداتهم وأعرافهم؛ إذا كانت تخالف شرع الله سبحانه وتعالى.
كما لا يصح أن يستقل العقل البشري بتحديد المصلحة والمفسدة؛ فإن مراعاة مصالح العباد تكون بميزان دقيق متجرِّد، تُراعى فيه نصوص الشرع وقواعده وأصوله، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 49].
"الله سبحانه يقول: إنه هو الله لا إله إلا هو، وإن شرائعه التي سنَّها للناس بمقتضى ألوهيته لهم وعبوديتهم له، وعاهدهم عليها وعلى القيام بها هي التي يجب أن تحكم هذه الأرض، وهي التي يجب أن يتحاكم إليها الناس، وهي التي يجب أن يقضي بها الأنبياء ومن بعدهم من الحكام..
والله سبحانه يقول: إنه لا هوادة في هذا الأمر، ولا ترخص في شيء منه، ولا انحراف عن جانب ولو صغير.
وإنه لا عبرة بما تواضع عليه جيل، أو لما اصطلح عليه قبيل، مما لم يأذن به الله في قليل ولا كثير!"[4].
وبسبب الجهل بأحكام الشريعة ومقاصدها، والمقصود في فهم القواعد الأصولية المتعلقة بها؛ فهم بعض الناس من قاعدة: "مراعاة الشريعة للمصالح ودرؤها للمفاسد" مفهومًا منحرفًا يحيد بها عن مفهومها وسبيلها المستقيم، وحملت هذه القاعدة من المعاني والأحكام ما لا تحتمل، وفُتح باب عريض من التساهل في تطبيق الأحكام، وأصبح الهوى من العوامل الخفية التي تؤثر تأثيرًا بالغًا في تحديد المصالح والمفاسد.
تفاوت رتب المصالح والمفاسد:
إذا كان فقه الأولويات قائمًا على الأولويات بين المصالح والمفاسد فليعلم: أن المصالح تنقسم إلى الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، كما تنقسم المفاسد إلى القبيح والأقبح، والرذيل والأرذل، ولكل واحد منها رتب عاليات ودانيات ومتوسطات، متساويات وغير متساويات، ولا نسبة لمصالح الدنيا إلى مصالح الآخرة؛ لأنها خير منها وأبقى، ولا نسبة لمفاسد الدنيا إلى مفاسد الآخرة؛ لأنها شرٌّ منها وأبقى، ومصالح الإيجاب أفضل من مصالح الندب، ومصالح الندب أفضل من مصالح الإباحة، كما أن مفاسد التحريم أرذل من مفاسد الكراهة.
لذلك كان تقديم الأصلح فالأصلح ودرأ الأفسد فالأفسد، مركوزًا في طبائع العباد نظرًا لهم من رب الأرباب.
فلو خيَّرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذِّ؛ لاختار الألذَّ، ولو خير بين الحسن والأحسن لاختار الأحسن، ولو خيِّرَ بين فلس ودرهم؛ لاختار الدرهم، ولا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح، أو شقيٌّ متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت"[5].
من خلال ما سبق نستطيع القول بأنه لا بد للمرء الذي يعمد إلى فعل الأولى فالأولى، وتقديم الأهم على المهم؛ أن يكون عالمًا بفقه الأولويات، الذي يقوم في الأساس على موازنة المصالح بعضها ببعض، واتِّباع الأصلح فالأصلح، أو موازنة المفاسد بعضها ببعض، ودرء الأفسد فالأفسد، أو موازنة المصالح والمفاسد إذا تعارضا، واختيار ما مصلحته راجحة أو غالبة، ودرء ما مفسدته راجحة أو غالبة.
ومسألة الترجيح بين المصالح والمفاسد تعدُّ من معضلات المسائل؛ لأن الترجيح يحتاج إلى ضوابط.
وفي ذلك يقول نجم الدِّين الطوفي: "ثم إن المصالح والمفاسد قد تتعارض فتحتاج إلى ضابط يدفع محذور تعارضها، فنقول: كل حكم تفرضه، فإما أن تتمحض مصلحته، أو مفسدته، أو يجتمع فيه الأمران.
• فإن تمخضت مصلحته وكانت واحدة؛ حصلت.
وإن تعددت: فإن أمكن تحصيل جميعها؛ حُصلت وإن لم يمكن حُصِّل الممكن، وإن تعذر تحصيل ما زاد على المصلحة الواحدة؛ حُصِّل الأهم منها، وإن تساوت في ذلك؛ حصِّلت واحدة منها بالاختيار أو بالقرعة.
• وإن تمحضت مفسدته؛ دُفعت.
وإن تعددت؛ دُفع جميعها إن أمكن، وإن تعذَّر؛ دُفع الممكن منها، فإن تفاوتت في عظم المفسدة؛ دُفع أعظمها، وإن تساوت في ذلك؛ فبالاختيار أو القرعة.
• وإن اجتمع فيه الأمران "المصلحة والمفسدة"؛ فإن أمكن تحصيل المصلحة ودفع المفسدة؛ تعيَّن، وإن تعذر فُعل الأهم "من تحصيل أو دفع" إن تفاوتا في الأهمية.
• وإن تساويا فبالاختيار أو القرعة.
• وإن تعارضت مصلحتان أو مفسدتان أو مصلحة ومفسدة وترجَّح كل واحد من الطرفين من وجه دون وجه؛ اعتبرنا أرجح الوجهين تحصيلًا أو دفعًا، فإن استويا في ذلك عدنا إلى الاختيار أو القرعة.
فهذا ضابط مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" يتوصل به إلى أرجح الأحكام غالبًا وينتفي به الخلاف بكثرة الطرق والأقوال"[6].
فمثلًا:
1- لو رأى إنسان يؤدي الصلاة شخصًا غريقًا فعليه أن يقطع الصلاة وينقذ الشخص الغريق ثم يقضي الصلاة.
فهنا جمع بين مصلحتين: إنقاذ الغريق، وقضاء الصلاة.
2- لو رأى إنسان شخصًا صائمًا في رمضان غريقًا ولن يتمكن من إنقاذه إلا بالفطر فإنه يفطر جمعًا بين المصالح.
3- معلوم أن الصلاة إلى غير القبلة مفسدة محرمة، لكن لو سيطر الخوف بحيث لا يتمكن المقاتل من استقبال القبلة سقط استقبالها[7].
صفات المُوازِن:
أولًا: الإلمام بمقاصد الشريعة الإسلامية، وهي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد.
ثانيًا: الإلمام بقواعد المصالح ودرجاتها من حيث الأهمية.
ثالثًا: العلم الوافي بالفن الذي تتعلق به الأولويات.
رابعًا: الإلمام بحاجة العصر وضرورياته "فقه الواقع".
وفهم المقاصد شرط لبلوغ درجة الاجتهاد.
قال الشاطبي: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتَّصف بوصفين:
1- فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
2- التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها"[8].
آثار غياب فقه الموازنات عن الواقع:
إذا غاب عنا فقه الموازنات سددنا على أنفسنا كثيرًا من أبواب السعة والرحمة، واتخذنا فلسفة الرفض أساسًا لكل تعامل، والانغلاق على الذات تكأة للفرار من مواجهة المشكلات، والاقتحام على الخصم في عقر داره.
سيكون أسهل شيء علينا أن نقول: "لا" أو "حرام" في كل أمر يحتاج إلى إعمال فكر واجتهاد.
أما في ضوء فقه الأولويات فسنجد هناك سبيلًا للمقارنة بين وضع ووضع، وبين حال وحال، والأولويات بين المكاسب والخسائر، على المدى القصير، والمدى الطويل، وعلى المستوى الفردي، والمستوى الجماعي، ونختار بعد ذلك ما نراه أدنى لجلب المصلحة، ودرء المفسدة.
[1] الفتاوى الكبرى، شيخ الإسلام ابن تيمية "4/ 465".
[2] إعلام الموقِّعين عن رب العالمين، ابن القيم "3/ 3".
[3] الموافقات في أصول الفقه، الشاطبي "2/ 38" بتصرُّف يسير.
[4] في ظلال القرآن، سيد قطب - بتصرف يسير "2/ 364".
[5] قواعد الأحكام في مصالح الأنام "1/ 7"، والفوائد في اختصار المقاصد للعزِّ بن عبد السلام "1/ 239".
[6] المصلحة في التشريع الإسلامي، د.
مصطفى زيد، ص 238، 239.
[7] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لابن عبد السلام "1/ 57" وما بعدها، وانظر مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية العدد "46" ص 394 - 395.
[8] الموافقات، للشاطبي "4/ 105".