أرشيف المقالات

التأسي بالسلوك المحمدي ضرورة العصر وكل عصر

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
التأسي بالسلوك المحمدي
ضرورة العصر وكل عصر

وما أحوَجنا إلى التأسِّي برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كل تصرُّفاته، فهو الكمال الإنساني بعينه، ومن منا لا يُنشد الكمال، طبعًا لن نصل إلى الكمال المحمدي، ولكن حسبنا أن تكون خُطواتنا على طريقه، فإن زلَّت أقدامنا عُدنا إليه سراعًا، ورمضان مناسبة طيِّبة لنتَدارس الحياة العمليَّة لخير البشريَّة، فنتزوَّد من سلوكه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بشحنة إيمانيَّة تُساعدنا على مواجهة ابتلاءات الزمان.
 
أهميَّة السلوك اليومي:
حفَلَت الكتب التي عرَضت للسيرة النبوية الطاهرة، بإبراز دور الأُسوة الحسنة المحمديَّة في المجالات العامَّة، ولا سيَّما ما اتَّصل منها بالدعوة، أو العبادات، أو الغزوات، وغير ذلك.
 
وقلَّما يتوفَّر بعض هذه الكتب على دراسة السلوك اليومي للنبي الكريم في مواجهته - صلَّى الله عليه وسلَّم - للمسائل العارضة، والمواقف الجارية، وهو السلوك المرشد الذي يُعتبر - دون منازع - الوسيلة التعليميَّة الحيَّة، التي تُبيِّن للمسلمين الأسلوب الأمثلَ، والمَسلك الأفضلَ، عندما تعرض لهم مثل هذه المسائل والمواقف.
 
وعندما تتحدَّث معظم كُتب السيرة عن خصال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكثيرًا ما تتحدَّث عنها بصورة عامَّة مجرَّدة، وقليلاً ما تشفعها بالأمثلة العملية اليوميَّة، والنماذج السلوكية التي تُحَفِّز الناس على التأسي الهادف، والتقليد المفيد.
 
ونحن نرى أنَّ السلوك المحمدي اليومي هو من أهمِّ مواطن الأُسوة التي يَنبغي أن نُلِح على العناية بعَرْضها دائمًا على عامة المسلمين، وتعميق الإحساس لَدَيهم بها، كتجارب معيشيَّة حيَّة، ذلك بالصورة التي تُحَرِّك طاقتهم الإيمانيَّة نحو تنظيم معاملاتهم اليوميَّة على بصيرة سويَّة، وخُلُق قويم.
 
وإنَّه لهو الأسلوب المنشود في تربية المسلم المعاصر الذي تُحيط به مرائي الفتن، ومهاوي الغفلة من كلِّ مكان؛ مما يَجعله في أمَسِّ الحاجة إلى التعرُّف الواعي بنبيِّه العظيم، تعرُّفًا عمليًّا سلوكيًّا، يعيش في حركات جوارحه في كلِّ دقائق الحياة.
 
وإنَّ من الإيحاءات المضيئة، والإيماءات الوضيئة التي تَشِعُّ بها السيرة المحمديَّة العاطرة الزاخرة، والتي تطمئنُّ إليها نفس المؤمن المتأمِّل - أنَّ النبي الخاتم - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أراد الله تعالى له أن تكون السنوات التي أمضاها - فيما بين مولده الشريف، وبين انتقاله إلى الرفيق الأعلى - كلها عقدًا دُرِّيًّا منتظم الحَبَّات، وسلسلة مترابطة متَّسِقة الحلقات من المواقف الإنسانيَّة المتعدِّدة والمتنوعة، والتي كانت بحقٍّ نماذجَ عمليَّة لك، ما يمكن أن يعرض لأيِّ امرئٍ في حياته من أمور، وقد عبَّرت السيرةُ النبويةُ الظاهرة بجلاءٍ عن مواجهة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لكلِّ موقفٍ من هذه المواقف، بالفكر الرشيد، والفعل السديد الذي لا يَنطق عن الهوى.
 
ولك أن تستعرضَ هذه السيرة الرائدة، والمسيرة الغنيَّة بالتجارب البشريَّة، والخبرات الإنسانيَّة العمليَّة في تأمُّل عميقٍ، وتدبُّر دقيق؛ لتعرفَ أنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانتْ حياته كلها على هذه الأرض دروسًا جديرة بالاقتداء، وخُطوات حَرِيَّة بالاقتفاء.
 
فما نظنُّ أنَّ هناك تجربة ميدانيَّة يُمكن أن تعرضَ لإنسان ما في الحياة، لَم تتضمَّنها حياة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومِن ثَمَّ فإنه يُصبح على أتْباع هذا القائد القدوة، والراشد الأُسوة - ما داموا قد صدَّقوه وآمنوا برسالته، ووقَر هذا الإيمان في قلوبهم - أن تتَّسِق أعمالهم مع هذا الإيمان.
 
على أن يُحيط تأسِّي المؤمنين بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بجوانب السلوك اليومي، ذلك السلوك النبوي الذي يمثِّل الخُطوات العملية للتربية الشخصيَّة للمؤمنين.
 

بين التابع والمتبوع:
ولا يتَّسق السلوك العملي مع الإيمان القلبي، إلاَّ إذا اتَّفق سلوك التابع وسلوك المتبوع، بحيث تُصبح أفعال التابع المصدِّق استمرارًا وامتدادًا لأفعال المتبوع المصدوق.
 
وإن هذا ليبدو في وضوح وجلاء في الدين الإسلامي الحنيف بوجه خاصٍّ؛ حيث لا ينقطع دور الرسالة بوفاة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنما هي رسالة ممتدَّة، ومتمثِّلة في أتْباعه وأتباع أتباعه من المسلمين الصادقين إلى ما شاء الله ربُّ العالمين، طالَما كان هناك قرآن يُنَظِّم مسيرة هذه الرسالة الحقَّة، وهو القرآن المجيد الذي تكفَّل الحقُّ - سبحانه وتعالى - بحِفظه؛ ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
 
ذلك لأن كل مسلم - في أيِّ زمان ومكان - مكلفٌ بتبليغ دعوة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُقيم دينه، ويَسلك ما استطاع مَسْلكه في اقتداءٍ قويم، واهتداءٍ سليم.
 
وعلى هذا، فقد ألْقى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - المسؤوليَّة العمليَّة على كلِّ فردٍ من أفراد أُمَّته - جيلاً بعد جيل - حين قال: ((كلكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته)).
 
ولعلَّ هذا ما هيَّأ الأمة الإسلاميَّة لأن تكون خيرَ أُمَّة أُخْرِجت للناس؛ لأن كلَّ فردٍ فيها مكلَّفٌ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من منطلق الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - وهذا التكليف هو استمرار لرسالة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
 
ولقد قرَّر هذا القرآن الكريم في بعض آياته المُحكمات التي يشرح بعضُها بعضًا في ترابط متينٍ، واتصال مَكينٍ؛ ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
 
فإذا استشَعر المسلم الحقُّ في أعماقه هذه المسؤوليةَ، وهذا التكليف، فما أحراه أن يتحرَّى السلوك النبوي، الذي صدَر عن صاحب هذه الرسالة المتواصلة طوال ثلاثة وستين عامًا من الزمان لا تُمَثِّل عُمر إنسان، ولكنَّها تُعتبر الينبوع المتدفِّق الذي يَفيض دون أن يَغيض على البشرية جمعاء: طولاً وعرضًا، بما يُصْلِح أوَّلها وآخرَها، كما أنها المورد النقي الذي يَرِدُه كلُّ مَن طلَب الطريق السوي، وقصَد الصراط المستقيم.
 
ولقد أرادَ الله - سبحانه وتعالى - بأتْباع محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - اليُسرَ، ولَم يُرِدْ بهم العسر؛ عندما بعَث فيهم رسولاً من أنفسهم هو في كلِّ خُطوة قُدوة، وفي كل مجال مثالٌ، فأجرى الله - عزَّ وجلَّ - على يديه الشريفتين الأسلوب الصحيح لمواجهة كلِّ ما يُمكن أن يعرض لبشرٍ من أحداث، وهداه إلى القول الفصل، والمَسلك العدل في كلِّ ذلك؛ حتى يتيسَّرَ لنا النظر في الحلول عندما تعرض لنا المشكلات، تأسِّيًا بمواقفه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كلِّ أمرٍ من الأمور، ولو دَقَّ.
 
وهذا فَضْلٌ من الله ونعمة؛ حيث يتَّجه المسلم كلَّما حزَبه موقف إلى السلوك النبوي؛ ليَعرف ماذا فعَل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندما واجه مثل هذا الموقف.
 
وعندها يجد ضالَّته في السيرة النبوية الخِصبة، يَهدأ بالُه، وتَطمئنُّ نفسه، ويُحاول أن يَقتدي بالسلوك المحمدي، مستمدًّا شعاعَ الهدى من القبس النبوي الوضَّاء، وكيف لا؟ ألاَ يكفي المسلم أن يقتدي بنبيٍّ كان خُلُقه القرآن؟
 
ولعلَّه من نافلة القول أن نَذكر أنَّ اقتداء السابقين في صَدْر الإسلام بالسلوك المحمدي، هو الذي جعَل من كلِّ واحدٍ منهم طاقة هائلة من الإيمان المتين، الذي لا تَعصف به الأهواء، ولا تُزَعزعه الأنواء، وهؤلاء هم الذين كانوا اللبنات القويَّة الراسخة، التي قام عليها المجتمع الإسلامي المتماسك المَتين.
 
ولَمَّا كانت الأحداث البشريَّة والمواقف الإنسانيَّة، لا تكاد تُحصى كمًّا وكيفًا؛ لذلك كانت حياة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حافلة بالنماذج الحيَّة لهذه الأحداث والمواقف، وبالأمثلة التعليميَّة النابضة التي تُبَصِّر الناس بالتصرُّف النبوي الحكيم حيالَها، والأسلوب المحمدي السليم في معالجتها.
 
في العلاقة الزوجيَّة:
وحسبنا أن نتذاكر بعضًا منها في عصرنا هذا الذي ماجَت بالناس فيه السُّبل، وتقطَّعت بهم الأسباب، واختلَطَت عليهم الأمور، فأصبَحوا يتخبَّطون في ظلمة تَفتقد الدليل الهادي، وتَفتقر إلى المرشد الأمين.
 
وعلى سبيل المثال ما نعلمه مما يحدث اليوم من خلاف بين الزوج وزوجه لأمرٍ أو آخر، وكيف يستفحل هذا دون مُبرِّرٍ، حتى إنه ليُهدد كِيان الأسرة، ويُطيح بمصير أبنائها، فتعالَ معي إلى الموقف المحمدي العظيم في مثل هذا الموقف.
 
تَروي كتب السيرة أنه كان هناك بين عائشة والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كلام، فسألها: ((هل تَرْضين أن يكون بيني وبينك؟ أتَرَضين بأبي عُبيدة بن الجرَّاح؟))، قالت: لا؛ ذلك رجل هَيِّن لَيِّن، يقضي لَكز، قال: ((أتَرَضين بأبيك؟))، قالت: نعم.
 
فلمَّا جاء أبو بكر، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - اقْصُصي، فقالت: بل اقْصُص أنت، فأخَذ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في إعادة ما جرى بينهما من كلام، وبَدَرت من عائشة كلمة لا تَعنيها، فقالت: اقْصد! فرَفَع أبو بكر يده فلَطَمَها وانتَهَرها مغضبًا: تقولين يا ابنة أُمِّ رُومان: اقْصد، مَن يقصد إذا لَم يقصد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ وجَعل الدم يَسيل من أنفها، ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يحجز بينهما، ويقول لصديقه: إنَّا لَم نُرِد هذا؛ حتى انصرَف برضًا من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم!
 
فأين الزوج الذي نعرفه اليوم من الزوج محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي يرسم بسلوكه النبوي الرحيم، كيف تُعالَج الأمور بين الزوجين دون عنفٍ، حتى لو كان هذا العنف من حَميه الصِّديق - رضي الله عنه - دفاعًا عن خُلُق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
 
في العلاقة الأبويَّة:
ثم أمَا عَلِمت بنبأ فاطمة بنت محمد، وقد دخَلت على أبيها - صلَّى الله عليه وسلَّم - باكية، تشكو إليه زوجها عليًّا، سيتزوج من بنت أبي لهبٍ؟
 
إنه لموقف معقَّد الشِّعاب، إن فاطمة هي مَن هي في عُمق القلب المحمدي الطاهر، وإنَّ عليًّا هو مَن هو في مواقفه النادرة في الإسلام: سبقًا، وفداءً، وبطولة.
 
هذه هي الابنة الحبيبة، وهذا هو ابن العم الحبيب، فماذا يصنع الأب الذي لا يُقيم أسرة، وإنما يُشيِّد أُمَّةً؟
 
إن الأب المعاصر قد تأخذه سَوْرة الغضب، فيتخلى عنه رُشده وحِكمته، وقد يَحتجز ابنته عن بيت زوجها، ثم قد يتصاعد الأمر، فينتهي إلى ما لا تُحمد عُقباه.
 
ولكن عندما يكون الأب هو الأُسوة الحسنة، فإنه لا بدَّ آتٍ بالتصرُّف الحكيم، الذي يريد للناس أن يَنهجوا نَهْجه، ويَنسجوا نسجه، إن عرَض لهم مثله في الأزمان.
 
لقد خطَب الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الناس - وبينهم عليٌّ - يعرض الأمر، ثم يواجه الموقف في حكمة فذَّة، وأدَبٍ جَمٍّ، بأنه لا يقبل أن تعيشَ ابنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبنت عدوِّ الله في بيت واحد، فإذا بعلي يحسُّ بخُطورة الأمر إن وقَع، فيعود إلى زوجه الزهراء في اعتذارٍ ورجاء، وتمرُّ العاصفة مَرَّ النسيم.
 
في مُواجهة الأحزان:
ولعلَّ في مُخَيَّلتنا دائمًا موقفَ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يواجه فِراق ولده الحبيب إبراهيم، ويضع حُنُوَّ الأبوة الرقيقة الدامعة في إطار من الجَأْش المَتين، وكأنه يقول للأجيال المقبلة من الآباء: إن هكذا يواجه مثل هذا الموقف، وإن هذه هي الحدود التي ينبغي التزامُها في مثل هذا الحَدث الفاجع الرهيب، حُزن في القلب يَنطق بدمعة من العين؛ لأن هذه هي مشيئة الله التي اقتضَت أن يُمتحن محمد الأُسوة هكذا؛ ليقدِّم لنا على مَرِّ الزمان درسًا من دروس الإيمان، ويا لها من دروس.
 
حياته - صلَّى الله عليه وسلَّم - كلها تشريع:
ومن الأمور التي توحي بأنَّ حياة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانت من أوَّلها إلى آخرها رسالة محدَّدة المعالِم، أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَم يحجَّ إلاَّ مرة واحدة، وهي الحجة التي خطَب فيها خطبة الوداع؛ ليأخذ الناس عنه مناسكهم، ولينتقل بعد ذلك إلى جوار ربِّه؛ حيث أتَمَّ ما كُلِّف به علمًا وعملاً.
 
فما أحوج المسلمين - بل ما أحوج البشر جميعًا - اليوم إلى أن يتعمَّقوا مواطن الأُسوة النبويَّة الهادية، فيما يعنُّ لهم في حياتهم اليومية في هذا العصر من مواقف ومشكلات.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١