أرشيف المقالات

علمنا الحج

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
إن فريضة الحج يتجلَّى فيها حقيقة التوحيد الخالص لله عز وجل؛ حيث يلبِّي كلُّ من في السماوات والأرض لله تعالى، يسبحه النبات جمعه وفريده، والشجر عتيقه وجديده، وتمجِّده رهبان الأطيار في صوامع الأشجار، لبَّى حجاج بيت الله، ولبَّى معهم الأشجار والأحجار، الكل يعلن التوحيد للملك الحق المجيد، جل جلال الله؛ صحَّح الألباني في صحيح ابن ماجه (2380)، عن سهل بن سعد الساعدي، أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ملبٍّ يلبي إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مَدَرٍ -جمع مَدَرَةٍ؛ وهو التراب المتلبِّد أو قطع الطين- حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا»، فشرع الله تعالى للحجاج التلبية، ولنا التكبير؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أهلَّ مُهِلٍّ قط، ولا كبَّر مُكبِّر قط إلا بُشِّر بالجنة» ؛ (قال الألباني في السلسلة الصحيحة (1621): إسناده حسن، رجاله ثقات، رجال الشيخين).
 
لقد رحل عنا موسم الحج، لكنه علمنا كثيرًا من الدروس والعِبر التي تجدِّد في قلوبنا الإيمان بالله تعالى:
علمنا الحج أن نثق بموعود الله تعالى، وأن الله لا يخلف وعده، ولا يخذل جنده؛ وذلك حين رزق الله إبراهيم بغلام حليم نجيبٍ، شهِد الله تبارك وتعالى له بالنجابة من صغره، فيأمره الله عز وجل أن يذهب بزوجته وبولده إلى جبال صالان موضع مكة الآن؛ حيث الصحاري التي تتلظى نارًا ووهجًا، فيستجيب لأمر الله عز وجل ويرضى به، تقول له زوجه: يا إبراهيم، إلى من تتركنا في مثل هذا المكان القفر؟! آلله أمرك بهذا؟! يقول: نعم، تقول: إذًا فلن يضيعنا، أم إسماعيل تقول: إذًا فلن يضيعنا الله، فأي مكانة للتوكل أعظم من هذه؟ موقف لامرأة عظيمة مصرية يعجز عن مثله رجال الدنيا ، إن أراد الناس أن يفتخروا، وإن أراد المصريون أن يفتخروا، فليفتخروا بأم إسماعيل هاجرَ، ولا يفتخروا بأقباط وفراعنة قدماء، لا شأن لهم عند الله عز وجل في ميزان الأرض ولا في ميزان السماء، ويذهب إبراهيم تاركًا لها ولولده جرابًا من تمر، وسِقاءً من ماء، ثم بعد هذا يأتيها جبريل حينما يتلبَّط وهي تهرْوِل ما بين الصفا والمروة، باحثة عن الماء لرضيعها الذي يتلبط جوعًا، وهنا يتبدَّى لها جبريل، وفي رواية صحيحة يقول لها: ((من أنتِ؟ تقول: أنا أم إسماعيل وزوج إبراهيم، يقول: إلى من وَكَلَكما؟ تقول: إلى الله، وهي لا ترى أمامها إلا رمال الصحراء، يقول: وكلكما إلى خير كافل، لا تخشَيِ الضَّيْعَة، إن الله لا يضيِّع أهله))، فإن كان الله عز وجل لا يضيع أهله، فهل يضيع دينه؟ هل يضيع أولياءه؟ هل يضيع عباده الصالحين؟ لا والذي رفع السماء، وعلَّم آدم الأسماء؛ قال رب الأرض والسماء: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، فلما وثقت هاجرُ بموعود الله تعالى، جعل الله تعالي لها الفرج العاجل، (إذًا فلن يضيعنا الله)، إذا ضاقت بك الظروف، واشتدت عليك النوائب، فإن كنت عبدًا لله عز وجل وعلى دينه، فلن يضيعك ولو في المهلكات، بل يحفظك مثلما حفظ يونس وهو في بطن الحوت، ومثلما حفظ موسى الرضيع وهو يتنقل على أمواج الماء، ومثلما حفظ إبراهيم وسط النيران، فاجعل هذه قاعدة عندك: (إذًا فلن يضيعنا).
 
علمنا الحج ما اختزنته الصحراء العربية من بطولات الصحابة رضوان الله عليهم، لو نطقت رمال الصحراء، لحدَّثت بالبطولات على رمالها، تذكرك الصحراء يوم "أتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك» ؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله"، وهنا أبو طلحة يتلو قول الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، "وإن أحب مالي إليَّ بُيَرْحَاء، وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذُخرها عند الله، فضَعْها يا رسول الله حيث أراك الله"، وفي تلك الناحية صهيب وقد تجهز للهجرة، فيقف له كفار مكة ليمنعوه، ويقولون: لقد جئت فقيرًا فاغتنيت، والله لا نتركك تذهب إلا أن تترك لنا المال الذي ربحته عندنا، فيقول: إنكم تعلمون أنني أحسنكم رميًا، ولو شئت لرميتكم فلا يصل إليَّ منكم أحد، ولكن أرأيتم إن أرشدتكم إلى مالي، أتتركونني؟ قالوا: نعم، قال: هو تحت عتبة بيتي، قالوا: ونقاسمك من ثيابك التي تلبس فأعطاهم، وانطلق ليلحق بموكب صُنَّاع الفجر بقيادة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وبينما هو يُجرِي الصفقة كان الوحي يخبر رسول الله بخبره، فقال: «ربِحَ البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى»، وأبو يحيى هو صهيب رضي الله عنه.
 
كل هذه المشاهد تختزنها الصحراء العربية، كما تختزن معادنها، وهي تعرضها لك في رحلة الحج لتجدد فيك دماء أجدادك، وبطولة آبائك:
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم  **  إن التشبُّهَ بالكِرام فلاحُ 
 
علَّمنا الحج شوق العجماوات من الحيوانات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالْمُدْيَةِ لينحر الْهَدْيَ في حِجَّة الوداع، تسابقت الإبل والنُّوق بين يديه أيها ينحر أولًا بين يديه، وكأن الموت بين يديه حياة، فالإبل تسارع بين يدي رسول الله؛ لتنال شرف الذبح بين يديه صلى الله عليه وسلم؛ عن عبدالله بن قرط، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القَرِّ»، وقُرِّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس بَدَنات أو ست ينحرُهُنَّ، فطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إليه، أيتهن يبدأ بها، فلما وجبت جنوبها، قال كلمةً خفيةً لم أفهمها، فسألت بعض من يليني: ما قال؟ قالوا: قال: «من شاء اقتطع» ؛ أي: من شاء أخذ من اللحم))؛ (قال الألباني في صحيح أبي داود، صحيح، حديث رقم (1765)).
 
هذا هو شوق العجماوات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل اشتقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما اشتاق إلينا؟ في صحيح مسلم (249)، عن أبي هريرة، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة، فقال: «السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وَدَدْتُ أنَّا قد رأينا إخواننا»، قالوا: أَوَلَسْنَا إخوانك يا رسول الله؟ قال: «أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعدُ»، فقالوا: كيف تعرف من لم يأتِ بعدُ من أمتك يا رسول الله؟ فقال: «أرأيت لو أن رجلًا له خيل غُرٌّ مُحجَّلة بين ظهري خيل دُهْمٍ بُهْمٍ، ألَا يعرف خيله» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «فإنهم يأتون غُرًّا محجلين من الوضوء ، وأنا فَرَطُهم على الحوض، ألَا لَيُذَادَنَّ رجال عن حوضي، كما يُذادُ البعيرُ الضالُّ، أناديهم ألَا هلمَّ، فيُقال: إنهم قد بدَّلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا»، هلَّا اشتقنا لرسول الله، كما كان خادمه ثوبان يشتاق إليه؛ رُوِيَ في السير بسند صحيح بشواهده، أن ثوبان رضي الله تعالى عنه مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان شديد الحب ِّ له صلى الله تعالى عليه وسلم، قليلَ الصبر ، حتى تغير لونه، ونَحَل جسمه، وعُرِف الحزن في وجهه، فقال له عليه الصلاة والسلام: «ما غيَّر لونك» ؟ فقال: ما بي مرض ولا وجع، إلا إني إذا لم أرَكَ استوحشت وحشةً شديدةً، حتى ألقاك، ثم إني إذا ذكرت الآخرة، أخاف ألَّا أراك وأنك تُرفَع مع النبيين، وأني وإن دخلت الجنة كنت أدنى منزلةً، فلم يَرُدَّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئًا، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [ النساء : 69]؛ (رواه الطبراني في الأوسط (477)، وقال الألباني: صحيح بشواهده؛ فقه السيرة).
كل القلوب إلى الحبيب تميل  **  ومعي بهذا شاهد ودليـــــــلُ 
أما الدليل إذا ذكرت محمـدًا  **  صارت دموع العارفين تسيلُ 
 
 
عباد الله، علَّمنا الحج أن نتحرى الحلال الطيب من المال الذي يبلِّغنا حَجَّ بيت الله المعظَّم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثم ذكر «الرجل يطيل السفر، أشعَثَ أغْبَرَ، يمُد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك» ؟؛ (حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1717)).
إذا حججت بمال أصله سحت  **  فما حَجَجْتَ ولكن حجَّتِ العِيرُ 
لا يقبل الله إلا كل صالحــــــة  **  ما كلُّ من حج بيت الله مبـرورُ 
 
فاللهم لا تحرمنا من حج بيتك الحرام عامًا من عمرة وحجة دوامًا، هذا، وصلى الله على محمد وعلى آل محمد.
____________________________________________________
الكاتب: أبو زيد السيد عبد السلام رزق

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣