المجلس الثاني من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي
مدة
قراءة المادة :
19 دقائق
.
المجلس الثاني من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ صل وسلم وبارك عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
أَمَّا بعد: فمرحبًا بكم وحيَّاكم الله مع [المجلس الثَّانِي من مجالس شرح كِتَاب تعظيم العلم].
للشيخ/ صالح بْن عبدالله بْن حمد العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى.
تكلَّمنا بالأمس عَن المقدمة؛ وخلاصتها ما ذكرناه: من أَن حظ الْعَبْد من العلم عَلَى قدر تعظيم قلبه للعلم.
وهذا الأمر -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- كما ذكرنا بالأمس:
لا يختص فَقَطْ بالعلم، كُلّ عِبَادَة يتعبد بها الْعَبْد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّ نصيبه وحظه وأجره من تِلْكَ الْعِبَادَة عَلَى قدر تعظيم قلبه لتلك الْعِبَادَة.
مثْلًا الصَّلَاة: حظ الْعَبْد من الصَّلَاة، استفادته من الصَّلَاة، تأثير الصَّلَاة في حياته، انتفاعه من الصَّلَاة، حصول بركة الصَّلَاة عليه وعَلَى أعماله وعَلَى حياته وعَلَى أولاده وعَلَى بيته، وعَلَى أهله وعَلَى ماله، تكون عَلَى قدر تعظيم قلبه للصلاة، وعَلَى هذا فقِسْ.
وموضوعنا وَهُوَ العلم:
العلم من أشرف العبادات؛ لأنه سَبِيل زيادة الإيمان، فلا سَبِيل إلى زيادة الإيمان إِلَّا بالعلم، يتعلم الإِنْسَان دينه ثُمَّ يعمل بهذا العلم، ونحن إذ نَقُول ذَلِكَ ينبغي عَلَيْنَا أَن نحتسب الأجر في مثل هذه المجالس -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- إننا الآن في عِبَادَة، كما أَن المصلي في عِبَادَة، وكما أَن الصائم في عِبَادَة، وكما أَن المتصدِّق في عِبَادَة، فَالَّذِي يجلس في مجالس العلم ويحضر دروس العلم هُوَ في عِبَادَة.
فيستحضر النِّيَّة، ويبتغي الأجر من عند الله، ويسأله القبول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه في عِبَادَة؛ بل هِيَ من أشرف العبادات كما سبق أن ذكرنا ذَلِكَ؛ لأنه بها يعرف العَبْد الخير من الشَّر، والحق من الباطل، وَهِيَ الَّتِي تدفعه إلى العمل.
ما الذي يدفع العَبْد إلى العمل والإكثار من الصالحات والإكثار من أنواع العبادات والتقرُّب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
هُوَ: العلم، العلم يحث ركاب الْعَبْد إلى الطاعات، يدفعه دفعًا إلى أبواب الخيرات، يسوقه سوقًا إلى مراضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإلى جناته، فنسأل الله جَلَّ فِي عُلَاهُ أَن يجعلنا ممن يحرصون عَلَى مجالس العلم، ويستفيدون منها، وممن يتعلمون العلم النافع ويعملون بِهِ وينشرونه، إن ربي قريب مجيب.
اليوم نتحدَّث إنْ شاء الله عَن المعقد الأول الذي ذكره الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى من معاقد تعليم العلم.
[المتن]
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ:
المعقد اَلْأَوَّلُ
تطهير وعاء العلم
وَهُوَ القلب؛ فَإِنَّ لكل مطلوب وعاء، وإن وعاء العلم القلب، ووسخ الوعاء يعكره ويُغيِّر ما فيه.
[الشرح]
أعتقد أني ذكرت هذا الأمر بالأمس؛ أَن من جمال الْكِتَاب: أَنَّهُ يُحبر العبارات الهامة الَّتِي تعتبر كالملخص للكتاب، يَعْنِي مَثَلًا أنا أقرأ الآن في كِتَاب الشرح، نجد أَن الشَّيْخ في العبارة هذه (وإن وعاء العلم القلب، ووسخ الوعاء يعكره ويغير ما فيه) نجد أنها محبرة، دلالة عَلَى أَن هذه الجملة وهذه العبارة كالملخص ومن أَهَمِّ ما ينبغي العناية بِهِ في هذا الْكِتَاب، وهذه العبارة تعتبر كالملخص للكتاب وأهم الأفكار الواردة في الْكِتَاب.
[المتن]
وبحسب طهارة القلب يدخله العلم، وإذا ازدادت طهارته ازدادت قابليته للعلم، ومثل العلم في القلب كنور المصباح إن صفا زجاجه شعَّت أنواره، وإن لطخته الأوساخ كسفت أنواره، فمن أراد حيازة العلم فليزن باطنه، ويُطهِّر قلبه من نجاسته، فالعلم جوهر لطيف لا يصلح إِلَّا للقلب النظيف.
[الشرح]
أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام، هذا الْكَلَام يُكتَب بمِداد الذهب، كلام مهم جدًّا، الشَّيْخ الآن يوضح المكان الذي يُحفظ فيه العلم، ما هُوَ الوعاء؟ هُوَ سمى المعقد تطهير وعاء العلم، عندما تشرب ماءً أو تأكل طعامًا، عَلَى سَبِيل الْمِثَال تأكل طعامًا، ما هُوَ الوعاء؟ أين تأكل الطعام؟ تأكله في وعاء معين هُوَ الذي يوضع فيه الطعام.
شبه الشَّيْخ هنا العلم بأن له وعاءً كما أَن الطعام له وعاء:
فالطعام يُوضَع في الوعاء إذا كان الوعاء نظيفًا، فَإِنَّ الْإِنْسَان يشتهي ذَلِكَ الطعام وينتفع بِهِ، وإذا كان الوعاء متسخًا حَتَّى لو كان الطعام لذيذًا، حَتَّى لو كان الطعام جيدًا، فإنه تنقص قيمته باتساخ الوعاء، وتقل استفادة الإِنْسَان منه بسبب وسخ الوعاء، هكذا القلب وهكذا العلم.
القلب محل العلم ووعاؤه:
فالإنسان عندما يحفظ الْقُرْآن أين يكون الْقُرْآن؟ يكون في قلبه، عندما يتعلم السُّنَّة تكون في قلبه، عندما يتعلم العلم النافع يكون في قلبه، يقرأ الْكِتَاب، الأفكار الواردة فيه ترسخ في قلبه، إذا كان القلب نظيفًا صالحًا ثبت العلم، وانتفع الْإِنْسَان بِهِ انتفاعًا عظيمًا، وتغيَّر حاله.
ولذلك كان السَّلَف عليهم رحمة الله يقولون: لا يكاد أحد يطلب العلم إِلَّا ويُرى أثر ذَلِكَ ظاهرًا عليه، يَعْنِي في زمن السَّلَف عندما يبدأ أحد يحضر مجالس العلم ومجالس الشيوخ؛ تجد أَنَّهُ مباشرة الرَّجُل تغير، فيه شيء تغيَّر فيه.
ما السَّبَب؟!
السَّبَب -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام-: طهارة قلوبهم، فمجرد أَنَّهُ يحصل عَلَى علم، مجرد أَنَّهُ يسمع كلام الله، وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتغيَّر حاله، تتهذب أخلاقه، تتحسن ألفاظه، يتغير أسلوبه، طريقته في الْكَلَام، طريقته في النقاش، وطريقته في الحوار، طريقته في الاستدلال، ردودُه وأفعالُه كُلُّها تتغيَّر؛ لِأَنَّ القلب نظيف، تحلى فيه العلم فظهرت البركات والخيرات والأنوار، بعون الله سريعًا عَلَى صاحب ذَلِكَ القلب.
وبالعكس إذا كان القلب متسخًا -وَالعِيَاذ باللهِ- فيه أوساخ الشهوات والشبهات كما سيمُرُّ معنا، سنقرأ إِنْ شَاءَ اللهُ ما ذكره الشَّيْخ في هذا المعقد؛ فَإِنَّ انتفاع الْعَبْد من العلم يكون ضعيفًا بسبب هذه الأوساخ، والمكدرات، والشوائب، الَّتِي تحول بين العلم وبين القلب، العلم إذا وصل إلى القلب انتفع الْإِنْسَان، لكن إذا كانت هناك حواجز بين وصول العلم للقلب فلا يستغرب الْعَبْد عدم انتفاعه بالعلم.
لذلك تجد بعض الناس:
ربما يبقى في الحلقات فترة طويلة، ويبقى مع الصالحين فترة طويلة، ويحضر مجالس العلم كثيرًا، لكن استفادته تأثره هُوَ بنفسه حاسس أنها لَيْسَت الاستفادة الَّتِي يرجوها، هنا ينبغي أَن يراجع نفسه، وأن يراجع تحديدًا قلبه، فينظر هل القلب صالح لِأنْ يتلقى النور الذي أنزله الله عَلَى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ يَعْنِي نور الوحي نور الْقُرْآن وَالسُّنَّة؟ أم القلب فيه شوائب؟ أم القلب فيه شبهات؟ أم القلب فيه شهوات؟ فيجب أَن يتوقف مع نفسه وقفة فيتخلص من كُلِّ المعاصي.
والله يا أحبة لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا:
هذا كلام عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، لو طهرت قلوبنا لكفانا آية واحدة، لكفانا حديث واحد يُغيِّر حياتنا، تتغيَّر أحوالنا، أحوال الأُمَّة كلها تتغير بآية أو حديث إذا كانت القلوب طاهرة.
لكن المصيبة في المعاصي:
المصيبة في هذه الحواجز الَّتِي تحول بين العلم وبين القلب، تحول بين كِتَاب الله جَلَّ فِي عُلَاهُ وبين القلب.
فتطهير وعاء العلم أَهَمُّ ما ينبغي عَلَى طالب العلم العناية بِهِ:
لأنه كثيرًا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- ما يبدأ طالب العلم يتعمَّق في دراسة الشَّرِيعَة، وينبغي له أَن يعرف هذه الأسس، كأن الشَّيْخ صالح العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ يَقُولُ لطالب العلم: تنبَّه قبل أَن تسلك الطريق نظِّف المحل، نظِّف قلبك حَتَّى تنتفع بهذه الدروس وهذه المجالس الَّتِي ستحضرها، وهذه الْكُتُب الَّتِي ستقرؤها، وهذا العلم الذي ستحصله ويكون حجة لك لا عليك، وينفعك عند الله، تطهير قلبك هذا هُوَ يَعْنِي دعونا نقل خلاصة هذا المعقد.
[المتن]
من أراد حيازة العلم فليُزيِّن باطنه، ويُطهِّر قلبه من نجاسته، فالعلم جوهر لطيف لا يصلح إِلَّا للقلب النظيف.
وطهارة القلب ترجع إلى أصلين عظيمين:
أَحَدُهُمَا: طهارته من نجاسة الشبهات.
الآخر: طهارته من نجاسة الشهوات.
[الشرح]
حقيقةً أنا أُحيِّي الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ عَلَى اختياره لكلمة (نجاسة) نعم -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- الشهوات والشبهات والمعاصي الَّتِي تقع في القلب، هذه نجاسات، فتخيَّلوا كيف أَن كلام الله طاهر وكلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خيرٌ وحقٌّ ونورٌ، كيف يحل في قلب متنجِّس؟! تريد أَن ينتفع ذَلِكَ القلب بهذه الهداية بهذا الخير، بهذه الطهارة، بهذا النور، بهذا الوحي المبارك، الذي أنزله الله عَلَى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قلب نجس فيه من الشهوات والشبهات والبلايا ما لا يعلمه إِلَّا الله؟!
لَا شَكَّ أن انتفاعه إن انتفع بالقرآن وَالسُّنَّة سيكون ضعيفًا، وتأثير الْقُرْآن وَالسُّنَّة عليه سيكون محدودًا، لا لعيب في الْقُرْآن وَالسُّنَّة معاذ الله؛ بل لعيب في ذَلِكَ القلب الذي يريد الانتفاع بالقرآن وَالسُّنَّة.
[المتن]
ولما لطهارة القلب من شأن عظيم، أمر بها النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[الشرح]
يَعْنِي كأنه يَقُولُ: إذا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بذلك ما بالك نحن لا نعتني بِهِ؟!
[المتن]
في أول ما أمر في قوله تَعَالَى في سورة المدثر: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4] في قول من يُفسِّر الثياب بالباطن، وَهُوَ قول حسن، له مأخذ صحيح، وإذا كنت تستحي من نظر مخلوق مثلك إلى وسخ ثوبك.
[الشرح]
دعونا نقرأ ما ذكره الشَّيْخ في شرح هذه العبارة في كتابه في شرح المتن.
[المتن]
وقدر ذكر أبو جعفر ابن جرير الطبري في تفسيره: أَن هذا القول.
[الشرح]
يَعْنِي تفسير قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4] أَن مَعْنَاهُ طهِّر باطنك، أبو جعفر ابْن جرير هذا شيْخ المفسرين وإمامهم رَحِمَهُ اللهُ.
[المتن]
هُوَ قول أكثر السَّلَف، أنهم يرون أَن المراد بقوله تَعَالَى: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾؛ أي: طهِّر أعمالك من كُلِّ نجاسة، والسياق يقوِّيه.
[الشرح]
ما معنى السياق يقوِّيه؟ لِأَنَّ الآيات الَّتِي قبلها والآيات الَّتِي بعدها كلها تتحدث عَنْ تطهير الْعَبْد أعماله وباطنه وظاهره، فيتسق أَن يكون السياق طهِّر أعمالك من كُلِّ نجاسة، هذا هُوَ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الله تَعَالَى يَقُولُ في السورة: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 1 - 5] فالآية الَّتِي قبلها فيها: ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّر ﴾ [المدثر: 3]؛ أي: عظِّم الله بالتوحيد، والآية الَّتِي بعدها: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]؛ أي: ابتعد عَن الأصنام واهجرها، وفارقها وأهلها.
فالآية الَّتِي في المنتصف: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4]، السياق يقوِّي أَن معناها طهِّر أعمالك من كُلِّ نجاسة، واللغة تحتمل هذا الْمَعْنَى.
[المتن]
وهذا معنى قول الْمُصَنِّف: (له مأخذ صحيح) وَهُوَ رعاية سياق الآيات، فَإِنَّ السياق المتتابع للآيات يبين عَنْ تقديم الأمر بالإيمان بالله وتوحيده في قوله: ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ [المدثر: 3]، ثُمَّ ذكر هذه الآية: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4]، ثُمَّ أتبعها بقوله تَعَالَى: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]، آمرًا بالكفر بالطاغوت واجتناب الشِّرْك، فبين الآيتين يكون المناسب للسياق حمل قوله تَعَالَى: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4]، عَلَى تطهير القلب من النجاسات الَّتِي تعلوه.
[الشرح]
الآن نستفيد فائدة تعتبر من قواعد التَّفْسِير:
من قواعد التَّفْسِير (أنك إذا أردت أَن تفهم معنى آية من كِتَاب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فلا تغفل السياق) لا تغفل السياق، اقرأ الآية الَّتِي قبلها، والآية الَّتِي بعدها حَتَّى تفهم الْمَعْنَى بوضوح، وَحَتَّى لا يَلْتَبِس عليك معنى الآية، لا تأخذ الآية بدون النظر للآيات الَّتِي قبلها والآيات الَّتِي بعدها، انظر إلى السياق كاملًا يحصل لك تمام الفهم بعون الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لمقصود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من هذه الآية، ولمقصود هذه الآية، أو لمفهوم هذه الآية ومعناها، واللهُ أَعْلَمُ بمراده.
[المتن]
ولما لطهارة القلب من شأن عظيم أُمِر بها النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول ما أمر، في قوله تَعَالَى في سورة المدثر: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4]، في قول من يُفسِّر الثياب بالباطن، وَهُوَ قول حسن له مأخذ صحيح.
[الشرح]
اللَّهُ أَكْبَرُ! أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام:
اليوم لو لم نخرج بفائدة غَيْر الجملة الَّتِي قالها الشَّيْخ بعد ذَلِكَ لكفانا بذلك فضلًا وشرفًا وعلمًا.
[المتن]
إذا كنت تستحي من نظر مخلوق مثلك إلى وسخ ثوبك فاستح من نظر الله إلى قلبك، وفيه إحنٌ وبلايا، وذنوب وخطايا.
[الشرح]
يَقُولُ الشَّيْخ: إذا كنت تستحي أنك تخرج أمام الناس بثياب متسخة أفلا تستحي أَن يكون في قلبك شيء لا يحبه الله؟! والله ينظر إلى قلب الْعَبْد، والقلب موضع نظر الله من الْعَبْد، فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
فيتنبه الْعَبْد -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- إلى تطهير قلبه:
ولا يجعل الله جل جلاله أهون الناظرين إليه، فيكون أمام الناس تقيًّا ورعًا، وبينه وبين الله فاجرًا فاسقًا، نسأل الله السلامة والعافية.
أين مراقبة الله أَن تعبد الله كأنك تراه فَإِن لم تره فإنه يراك وأنه يعلم السر وأخفى؟!
وفي الحَدِيْث الذي ذكره النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن أقوامًا يأتون يوم القيامة بحسنات كأمثال جبال تهامة بيضًا يجعلها الله هباءً منثورًا، قَالَ الصحابة: صفهم لنا يا رَسُول الله، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا إنهم إخوانكم ويأخذون من اللَّيْل كما تأخذون، لكنهم قومٌ إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها»، أو كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
انظروا أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام:
يأتون يوم القيامة بحسنات يَعْنِي معهم حسنات مقبولة، الله قبلها، يجعلها الله هباءً منثورًا، لماذا؟ لأنهم قومٌ إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، جعلوا الله أهون الناظرين إليهم، كَمَا قُلْنَا: أمام الناس عُبَّاد زُهَّاد أتقياء أصحاب ورع، وبينهم وبين الله فُجَّار فُسَّاق، أصحاب معاصٍ، لا يأبهون أَن ينتهكوا محارم الله جَلَّ وَعَلَا، نسأل الله السلامة والعافية.
فيتنبه الْعَبْد وخصوصًا طالب العلم:
خصوصًا أنت مقبل تريد أَن يعلمك الله، وأنت تعلم أَنَّهُ لن تتعلم حرفًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ، إِلَّا بأمر الله، إِلَّا بتوفيق الله، فكيف تعصي الله جل جلاله ثُمَّ تطلب العلم؟! وتريد أَن يزيدك الله علمًا، وتريد أَن يمنحك الله توفيقًا وفهمًا، لا يتفق -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- فَإِنَّ ما عند الله لا يُطلب إِلَّا بطاعته، لا يُطلب أبدًا بمعصية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، نسأل الله السلامة والعافية.
[المتن]
قَالَ مسلم بْن الحجَّاج.
[الشرح]
وَهُوَ الْإِمَام المعروف صاحب الصحيح رَحِمَهُ اللهُ.
[المتن]
حدثنا عمرو الناقد، حدثنا كثير بْن هشام، حدثنا جعفر بْن برقان، عَنْ يزيد الأصم، عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
[الشرح]
هنا لطيفة:
لماذا الشَّيْخ ذكر السند، كان بإمكانه أَن يَقُول: عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
أَيُّهَا الأَحِبَّة الكِرام:
واللهُ أَعْلَمُ بمراد الشَّيْخ من ذَلِكَ، لكن لما كثر في زمننا الجدل والتعدي عَلَى سنة النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد الشَّيْخ أَن يَقُولُ لقارئ الْكِتَاب ولطالب العلم خصوصًا: إن ديننا مأخوذ بالسند، رجلًا عَنْ رجل، عَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليس ديننا مأخوذًا بأقوال وأماني، وبأمور لسنا متأكدين منها، بالعكس نحن ديننا نأخذه أكابر عَنْ أكابر، جيلًا عَنْ جيل، يأخذون هذا الدِّين وينقلونه لمن بعدهم، فليس أمر الدِّين بترهات ولا بأمور تخرُّصات أو أشياء يقولها الناس من عند أنفسهم، بل هِيَ مأخوذة بالسند المتصل رجلًا عَنْ رجلٍ حَتَّى أخذوها عَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا من خصائص هذه الأُمَّة المُحَمَّدِيَّة، أَن الله حفظ لها دينها بمثل هذه الأسانيد.
والأمر سيان فِيمَا يتعلق بالكتاب العزيز؛ وَهُوَ الْقُرْآن الكريم، وبما يتعلق بسنة النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ كلًّا منهما حفظ بهذه الأسانيد الَّتِي سخَّر الله لها أناسًا أوفياء صادقين أتقياء، نقولها عَنْ مثلهم عَنْ مثلهم عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[المتن]
واحذر كمائن نفسك اللاتي مَتَى
خرجت عليك كُسرت كسر مهان
[الشرح]
يَعْنِي كأنه يَقُولُ: ترى قلبك إذا ما اعتنيت بِهِ لا تستغرب إذا وجدت فيه من الأمراض والشبهات والشهوات شيئًا كثيرًا؛ لِأَنَّ الشيطان مترصد لك، وشياطين الجن والإنس مترصدون لك، والدنيا بزخرفها مترصدة لك، وهكذا، وأصحاب السوء مترصدون لك، والشهوات كما ذكرنا والشبهات كلها ستجد أنها في طريقك حينما تسير إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
خلاصة الْكَلَام:
لا تتوقع أنك ستكون صاحب قلب طاهر إِلَّا إذا كان لك عناية بهذا الأمر بعد توفيق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إذا تركت الأمر هكذا فإنك ستجد أنك في قلبك إحن وبلايا وذنوب وخطايا كما ذكر الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ، لماذا؟ لِأَنَّ النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
بعض الناس يَقُولُ:
إِنْ شَاءَ اللهُ ما أحتاج أَن أحضر الدروس، ما أحتاج أني مثلًا أهتمُّ بحضور الدروس، أنا بِإِذْنِ اللهِ بعيد عَن المعاصي، أنت ربما الآن تكون بعيد عَن المعاصي، لكن هل تعلم ماذا سيحصل غدًا؟ الشيطان له خطوات، ثُمَّ لا تظهر أي تكبُّر عَلَى العلم، ولا تُظهر أي استغناء عَن العلم، فَإِنَّ هذا ميراث النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحق عَلَى من اتَّبَع النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يحرص عَلَى ميراث خير البشر صلوات الله وسلامه عليه.
[المتن]
من طهر قلبه فيه العلم حل، ومن لم يرفع منه نجاسته ودَّعَه العلم وارتحل، وإذا تصفحت أحوال طائفة من طلاب العلم في هذه المعقد رأيت خللًا بَيِّنًا، فأين تعظيم العلم من امرئ تغدو الشهوات والشبهات في قلبه وتروح؟! تدعوه صورة محرمة، وتستهويه مقالة مجرمة، حشوه المنكرات، وَالتَّلَذُّذ بالمحرمات، فيه غلٌّ وفساد وحسدٌ، وعناد ونفاق وشقاق، أنى لهؤلاء وللعلم؟! ما هم منه ولا هُوَ إليهم.
قَالَ سهل بْن عبدالله: حرام عَلَى قلب أَن يدخله النور وفيه شيء مما يكره الله عَزَّ وَجَلَّ.
[الشرح]
وأعتقد أَن عبارة سهل رَحِمَهُ اللهُ تختصر هذا المعقد، قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: (حرام عَلَى قلب أَن يدخله النور وفيه شيء مما يكره الله عَزَّ وَجَلَّ) نسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أَن يُطهِّر قلوبنا، وأن يجعلها صالحةً لقبول العلم والانتفاع بِهِ، ونشره والعمل بِهِ.
هذا والله تَعَالَى أعلم، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.