النهي عن الجلوس في الطرقات
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
النهي عن الجلوس في الطرقاتعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بدٌّ؛ نتحدث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر))؛ [متفق عليه].
المفردات والجمل:
أبو سعيد الخدري: هو سعد بن مالك بن سنان، الأنصاري الخزرجي، اشتهر بكنيته ونسبته حتى غلبا على اسمه، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا وعن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة، وروى عنه من الصحابة ابن عباس وابن عمر، وجابر، وكثير غيرهم، ومن التابعين سعيد بن المسيب، ونافع مولى ابن عمر، وطارق بن شهاب، وغيرهم، وكان من أفقه أحداث[1] الصحابة وعلمائهم، بايع تحت الشجرة، وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة، أولها الخندق، وكان ممن حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمًا جمًّا، وسننًا كثيرة، وكان من فضلاء الصحابة وعلمائهم، وتوفي رضي الله عنه بالمدينة سنة أربع وسبعين (74ه) عن بضع وثمانين سنة، وقيل: توفي سنة 63، وقيل: 64، وقيل: 65[2].
إياكم والجلوس في الطرقات:
إياكم: منصوب على التحذير والجلوس معطوف عليه.
هذا أحد أساليب التحذير، وهو من الكلام البليغ الموجز وأصله: احذروا تلاقي أنفسكم والجلوس في الطرقات.
حذف الفعل وجوبًا ومعه فاعله، ثم حذف المضاف الأول وأنيب عنه الثاني، فانتصب انتصابه، ثم حذف الثاني وأُنيب عنه الثالث فانتصب وانفصل[3].
والطرقات: جمع طرق، والطرق جمع طريق، والطريق يذكر ويؤنث؛ ولذا جاء في إحدى روايات البخاري ((فأعطوا الطريق حقها))، وعند مسلم من حديث أبي طلحة، وهو الحديث الثاني من كتاب السلام: عن أبي طلحة زيد بن سهل رضي الله عنه قال: ((كنا قعودًا بالأفنية نتحدث فيها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا فقال: ما لكم ولمجالس الصعدات؟! اجتنبوا مجالس الصعدات، فقلنا: إنما قعدنا لغير ما بأس؛ قعدنا نتذاكر ونتحدث، قال: إما لا، فأدوا حقها: غض البصر، ورد السلام، وحسن الكلام))، والصعدات: هي الطرقات، وزنًا ومعنًى وإفرادًا وجمعًا، مأخوذ من الصعيد؛ وهو التراب الصاعد على وجه الأرض، والأفنية: جمع فناء؛ وهو حريم الدار[4] ونحوها، وما كان قريبًا منها.
ما لنا بد من مجالسنا:
البد: الفراق، تقول: لا بد اليوم من قضاء حاجتي؛ أي: لا فراق منه، وبده يبده: فرقه، والتبديد: التفريق، واستبد برأيه: انفرد به، ولا بد منه: أي لا محالة منه؛ [انظر: اللسان 44 - 48/ ج3]، وفي المصباح لا بد من كذا: أي: لا محيد عنه، ولا يعرف استعماله إلا مقرونًا بالنفي، وقيل: لا عوض.
وجملة "نتحدث" في محل نصب على الحال من ضمير الجمع المضاف إليه في "مجالسنا"، أو مستأنفة مبينة لحاجتهم الملحة إلى جلوسهم على الطرقات، وجمعوا المجالس في مقابلة جمعهم، يريدون: لا غنى لكل منا عن مجلسه، والمجلس بفتح اللام مصدر ميمي بمعنى الجلوس، وبكسرها اسم مكان منه؛ أي: لا غنى لأحد منا عن جلوسه، أو مكان جلوسه في الطريق.
وحق الطريق: أدبه الذي أُمرنا أن نتأدب به إذا لم يكن بد من الجلوس فيه، أمرًا مفروضًا كان أو مندوبًا، وحقوق الطريق كثيرة، بيَّنها صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث وفي غيره، ولا شك أن المراد بحق الطريق حقوقه التي بينها صلوات الله وسلامه عليه، والمفرد المضاف يعم، تقول: أدِّ حق الله وحق عباده؛ أي: حقوق الله وحقوق عباده التي أُمرت بها، ولعل حكمة الإفراد الإشارةُ إلى الاهتمام بكل منها، كأنها كلها شيء واحد لا بد عن القيام به كله، فإذا قام ببعض دون بعض، فإنه لم يقم بها، وإنما قام بجزء من كل، وفي المختار حق الشيء يحق بالكسر حقًّا: أي: وجب، وفي المصباح: الحق خلاف الباطل، وهو مصدر حق الشيء من باب ضرب وقتل، إذا وجب وثبت؛ ولهذا يقال لمرفق الدار: حقوقها.
المعنى:
يحذر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته وأمته أن يجلسوا في الطرقات؛ خشية أن يتعرضوا لفتن ومآثم (أشار إلى بعضها وهو يبين لهم حقوق الطريق)؛ من مرور النساء وغيرهن، فقد يمتد النظر إليهن، أو سوء ظن بهن أو بغيرهن من المارين، وربما أدى النظر إلى احتقار أو غيبة، وربما أدى لهوُ الجالسين واشتغالهم بالحديث إلى إهمال حقوق واجبة وفرائض، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك من أمور قلما يسلم منها الجلساء في الطريق، ويلتحق بالطريق ما في معناه من الجلوس في الحوانيت، وعلى الشبابيك المشرفة على المارة.
وتحذيره صلى الله عليه وسلم من الجلوس في الطريق يفيد النهي، وهو هنا نهيُ كراهة وتنزيه؛ إذ لو كان نهيَ تحريم، لَما راجعوه صلى الله عليه وسلم، ولما أذن لهم في الجلوس بعد أن بينوا حاجتهم إليه، بأنهم يتحدثون في قضاء مصالحهم وتعاونهم على مآربهم في هذه الحياة، وفي هذا خير كثير، وكثيرًا ما تضيق البيوت بأهلها فضلًا عن غيرهم، فلا يجدون متنفسًا إلا في الأفنية والطرقات.
صدقوا رسول الله صلى عليه وسلم فيما اعتذروا به فصدقهم، وأذن لهم أن يجلسوا في الطريق، على شرط أن يؤدوا حقها كاملًا غير منقوص؛ ولما سألوه عن حق الطريق، أجمل حقه في خمسة أمور:
غض البصر؛ أي: كسره وخفضه وحبسه عن كل محرم من امرأة تمر أو عورة تكشف.
وكف الأذى: عن الناس بنظر أو لسان أو يد، فيدخل فيه اجتناب الغيبة، وظن السوء، واحتقار بعض المارة، كما يدخل فيه تضييق الطريق عليهم حسًّا أو معنًى، كأن يكون الجالسون ممن يهابهم المارة أو يخافونهم، فيمتنعون من المرور لمصالحهم؛ لأنهم لا يجدون طريقًا إلا ذلك الموضع.
ورد السلام: أي: يسلم من المارة، وهو من فروض الكفايات.
والأمر بالمعروف: وهو كل ما عرفه الشرع، ودعا إليه فرضًا كان أو نفلًا.
والنهي عن المنكر: وهو كل ما أنكره الشرع ونهى عنه نهي تحريم أو تنزيه.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات التي إذا قام بها بعض الجالسين سقطت عن الباقين.
وفي بعض الأحاديث حقوق أخرى: منها حسن الكلام، وإرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس إذا حمد، وإغاثة الملهوف، وإرشاد الضال، وإعانة المظلوم، وهذه الحقوق وأمثالها تدخل في الأمر بالمعروف، فهي في الحقيقة تفصيل لبعض ما أجمل في حديث أبي سعيد.
قال صاحب الفتح (ج6 / 38): "ويؤخذ منه أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة لندبه أولًا إلى ترك الجلوس مع ما فيه من الأجر لمن عمل بحق الطريق، وذلك أن الاحتياط لطلب السلامة آكد من الطمع في الزيادة".
[1] الأحداث: جمع (حدث) وهو صغير السِّنِّ.
[2] انظر: الإصابة 85/ح 3، والخلاصة 115، والرائد 63، والشهاوي 252.
[3] وعلى ذلك فهو من قبيل عطف المفردات، وقيل: إن الجلوس منصوب بفعل محذوف مناسب تقديره: "اجتنبوا"، وعلى هذا فهو من عطف الجُمَل ...
وفي النحو الواضح الثانوي أن أقل الوجوه تكلفًا في إعراب: "إياكم والرياء": إياكم "باعدوا" و"احذروا" الشر، فإياكم مفعول به في محل نصب بفعلٍ محذوف، والواو حرف عطف، والشر منصوب بفعل محذوف، ويكون العطف حينئذٍ من باب الجمل؛ [انظر: التصريح على التوضيح ص 242/ ج 2].
[4] حريم الدار: ما أضيف إليها من حقوقها ومرافقها.