من سلسلة أحاديث رمضان حديث: ما منعك أن تسب أبا تراب؟
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
سلسلة دروس أحاديث رمضان في فضل خير العصور حديث: ما منعك أن تَسُبَّ أبا ترابٍ؟
عن عامر بن سعد بن أبي وقاص: أمر معاويةُ بنُ أبي سفيانَ سعدًا، فقال: ما منعك أن تَسُبَّ أبا ترابٍ؟ قال: أَمَا ما ذَكَرْتُ ثلاثًا قالهنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلن أَسُبَّهُ لَأَن تكونَ لي واحدةٌ منهن أَحَبَّ إليَّ من حُمْرِ النَّعَمِ، سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول لعليٍّ وخَلَّفَه في بعضِ مَغَازِيهِ، فقال له عليٌّ: يا رسولَ اللهِ، تُخَلِّفُنِي مع النساءِ والصِّبيانِ، فقال له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا تَرْضَى أن تكونَ مِنِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى، إلا أنه لا نُبُوَّةَ بعدي، وسَمِعتُه يقول يومَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ الرايةَ رجلًا يحبُّ اللهَ ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسولُه، قال: فتَطَاوَلْنا لها: فقال: ادْعُوا لي عليًّا، قال فأتاه وبه رَمَدٌ، فبَصَق في عينِهِ، فدفع الرايةَ إليه، ففتح اللهُ عليه، وأُنْزِلَت هذه الآيةُ: ﴿ فقلْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ﴾ [آل عمران: 61]، دعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليًّا وفاطمةَ وحَسَنًا وحُسَيْنًا، فقال: اللهم هؤلاء أهلي[1].
الشرح:
كان الصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنهم يَعرِفون مَنزِلةَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ عِندَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومِن أجلِ ذلك كانوا يُجِلُّونه ويَحترِمونه، ويُحِبُّونه لِحُبِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم له، لقرابته منه، ولمكانته عنده.
وفي هذا الحديثِ يَقولُ التَّابعيُّ الجليلُ عامِرُ بنُ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ: "أمَر مُعاويةُ بنُ أبي سُفيانَ سعدًا"؛ أي: أمَر معاويةُ سعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ أمْرًا ما، وذلك عِندَما صار مُعاويةُ أميرَ المؤمنين، قيل: وقولُ مُعاويةَ هذا ليس فيه تَصريحٌ بأنَّه أمَر سَعدًا بسَبِّ عليًّ رضِيَ اللهُ عنهم جميعًا، وإنَّما سألَه عن السَّببِ المانعِ له مِن السَّبِّ، كأنه يقولُ: هل امتنعت تورُّعًا أو خوفًا، أو غير ذلك، فإنْ كان تورُّعًا وإجلالًا له عن السبِّ، فأنتَ مُصيبٌ محسنٌ، وإنْ كان غيرَ ذلك فله جوابٌ آخر، ولعلَّ سَعدًا قد كان في طائفة يَسبُّون فلم يسُبَّ معهم، وقيل: يَحتمِلُ أنَّ معناه: ما منَعَك أنْ تُخطِّئَ عليًّا في رأيِه واجتهادِه، وتُظهِرَ للناسِ حُسنَ رأينا واجتهادِنا، وأنَّه أخطأ؟ "فقال"، أي: قال مُعاويةُ لسعدٍ: "ما منَعك أن تَسُبَّ أبا تُرابٍ"، وأبو تُرابٍ هي كُنيةُ عليٍّ كنَاه بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: ما السَّببُ الَّذي جعَلك تَمتنِعُ عن سَبِّ عليِّ بنِ أبي طالبٍ؟ "قال"، أي: قال سعدٌ لِمُعاويةَ: "أمَّا ما ذكَرتُ"، أي: أمَّا سبَبُ عدَمِ سبِّي لعليِّ بنِ أبي طالبٍ فهو ذِكْري "ثَلاثًا قالَهنَّ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم"، أي: فلأنِّي أذكُر ثلاثةَ أشياءَ قالها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في عليٍّ، "فلَن أسُبَّه"، أي: فامتنَعتُ عن سَبِّه مِن أجلِ ما قاله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في حقِّه، "لَأَنْ تَكونَ لي واحدةٌ مِنهنَّ أحبُّ إليَّ مِن حُمْرِ النَّعَمِ"، أي: ولَأَنْ أظْفَرَ بشيءٍ ممَّا قاله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في حقِّ عليٍّ لَهُو أحَبُّ إليَّ مِن أن تَكونَ لي النُّوقُ الحُمْرُ، وهي مِن أشرَفِ الأموالِ وأنفَسِها عندَ العربِ.
ثمَّ بدَأَ سعدٌ يُعدِّدُها، فقال: "سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ لعليٍّ، وخَلَّفه في بعضِ مَغازيه"، أي: أمَّر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عليًّا في غزوةٍ مِن الغزواتِ -وهي غزوةُ تَبوكَ- أن يَمكُثَ معَ النِّساءِ والصِّبيانِ يَحْميهم، ولا يَخرُجُ معَهم في الغزوِ، "فقال له عليٌّ"، أي: قال عليٌّ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "يا رسولَ اللهِ، تُخلِّفُني مع النِّساءِ والصِّبيانِ!"، أي: استنكَر عليُّ بنُ أبي طالبٍ أن يَترُكَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مع النِّساءِ والصِّبيانِ ولا يَخرُجَ معَهم في الغزوِ، فكأنَّه كان يَستعطِفُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لِيَغزُوَ معَه، "فقال له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم"، أي: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: "أمَا تَرْضَى أن تَكونَ منِّي بمِنْزِلةِ هارونَ مِن موسى؟"، أي: أمَا يُرضيك يا عليُّ أن تكونَ وزيري كما كان هارونُ وزيرًا لِمُوسى عليهما السَّلامُ؟ "إلَّا أنَّه لا نُبوَّةَ بَعْدي"، أي: إلَّا أنَّه لا نبيَّ بَعْدي؛ فأنا خاتَمُ الأنبياءِ، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنَّ هارونَ عليه السَّلامُ خَلَف موسى عليه السَّلامُ في قومِه بعدَ أنْ خرَج موسى لملاقاةِ ربِّه، وكان هارونُ نبيًّا، فمثَّل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا بهارونَ في الخلافة، ثمَّ نفَى عن عليٍّ النُّبوَّةَ بعدَه؛ حتَّى لا يتَوهَّمَ أحدٌ أنَّ عليًّا سيَخلُفُ النُّبوَّةَ بعدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كما خلَف هارونُ نُبوَّةَ موسى عليهِما السَّلامُ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم خاتمُ النَّبيِّين.
قال سعدٌ: "وسَمِعتُه يقولُ يومُ خَيبرَ"، أي: سَمِع سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ يومَ غزوةِ خَيبرَ: "لَأُعطيَنَّ الرَّايةَ رجُلًا يحِبُّ اللهَ ورسولَه، ويُحِبُّه اللهُ ورسولُه"، والرَّايةُ هي عَلَمُ الجيشِ الَّذي يُحمَلُ في الحُروبِ، والمقصودُ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سوف يُعطي الرَّايةَ لرَجُلٍ يُحِبُّ اللهَ ويحبُّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك يحبُّ اللهُ هذا الرَّجلَ ويحبُّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وهذه شهادةٌ من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يتمنَّاها كلُّ مسلِمٍ، "قال فتَطاوَلْنا لها"، أي: قال سعدٌ: فتَأهَّبْنا للرَّايةِ؛ فكلُّ واحدٍ مِنَّا تمنَّى أن يَحمِلَ هو الرَّايةَ؛ لِيَفوزَ بما قاله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، "فقال: ادْعوا لي عليًّا"، أي: فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: نادوا واستَدْعوا لي عليَّ بنَ أبي طالبٍ وأحضِروه لي، "قال: فأتاه وبه رمَدٌ"، أي: فأتَى عليٌّ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعينُه مَريضةٌ وبها رمَدٌ، "فبَصَق في عينِه"، أي: فتَفَل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في عينِ عليٍّ ووضَع ريقَه فيها، فشَفاه اللهُ عزَّ وجلَّ، وتِلك مِن مُعجِزاتِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ حيث شُفِيَ عليٌّ ببرَكةِ رِيقِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، "فدفَع الرَّايةَ إليه"، أي: فأعطى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم علَمَ الجيشِ لعليٍّ، "ففتَح اللهُ عليه"، أي: فانتصَر عليٌّ في المعركةِ وفتَح اللهُ عزَّ وجلَّ عليه خيبرَ.
وقال سعدٌ في الثالثةِ: "وأُنزِلَت هذه الآيةُ: ﴿ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ﴾ [آل عمران: 61]، أي: ولَمَّا نزَلَت الآياتُ الَّتي في سورةِ آلِ عِمْرانَ: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61] "دعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليًّا وفاطمةَ وحسَنًا وحُسينًا"، أي: جمَع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم علِيَّ بنَ أبي طالبٍ وزَوجتَه فاطمةَ بنتَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وابنَيْهِما الحسَنَ بنَ عليٍّ والحُسينَ بنَ عليٍّ، ثمَّ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعدَما جمَعَهم: "اللَّهمَّ هؤلاءِ أهلي"، أي: أُشهِدُك يا ربِّ أنَّ هؤلاءِ أهلي وعشيرتي.
وفي الحديث: شهادة من صحابي جليل من العشرة المبشرين بفضل علي رضي الله عنه، وأنَّهم كانوا يتمنون منزلته.
وفيه: أنَّ علي من سادات الصحابة، ومن سادات أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه: أنَّ مقام عليٍّ لا يعلمه إلَّا الله وحده، فمناقبُه أكثرُ من أن تُعد، وثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه أكثر من أن يُحصى.
[1] رواه مسلم 2404.