المجلس الرابع من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي
مدة
قراءة المادة :
20 دقائق
.
المجلس الرابع من مجالس شرح كتاب تعظيم العلم للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ صل وسلم وبارك عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، أَمَّا بعد:
مرحبًا بكم، وحيَّاكم الله في [المجلس الرَّابِع من مجالس شرح تعظيم العلم].
للشيخ/ صالح بْن عبدالله بْن حمد العصيمي وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى.
طبعًا المعقد الْأَوَّلُ تحدَّث فيه الشَّيْخ عَنْ: تطهير وعاء العلم؛ وَهُوَ القلب.
ثُمَّ تحدث في المعقد الثَّانِي عَنْ: إخلاص النِّيَّة فيه؛ يَعْنِي: إخلاص النِّيَّة في طلب العلم.
وَقَدْ ذكرنا أقاويل السَّلَف عَلَيْهم رَحْمَةُ اللهِ فِيمَا يتعلق بأهمية الإخلاص وفضله:
• ومن ذَلِكَ قول الفضيل بْن عياض رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْكَ نِيَّتَكَ وَإِرَادَتَكَ.
حقيقةً كلام الفضيل هذا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- ينبغي أن نجعله نصب أعيننا، فهل نبخل عَلَى الله جَلَّ فِي عُلَاهُ بأن نخلص النِّيَّة له؟ والله يريد ذَلِكَ، والله يأمر بِهِ، والله يحب ذلِكَ، والله لا يحبُّ أن يشرك بِهِ، والله يبغض من يشرك بِهِ، فلماذا نجد صعوبة في أمر الإخلاص مع أَنَّهُ محبوب جدًّا إلى الله؟! بل هُوَ أحبُّ الْأَشْيَاء إلى الله أن يخلص الْعَبْد لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أحب الأعمال إلى الله أن تخلص وتعمل عملًا تخلص فيه لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ما الدليل عَلَى ذَلِكَ؟
الدليل عَلَى ذَلِكَ: أن أَوَّل أركان الْإِسْلَام هُوَ شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن محمدًا رَسُول الله قبل حَتَّى الصَّلَاة وَالزَّكَاة والصيام والحج.
ومقتضى الشهادتين: الإخلاص والمتابعة، مقتضى شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الإخلاص لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وألَّا يشرك الْعَبْد بالله شيئًا، لا شركًا أصغر ولا شركًا أكبر.
ومقتضى شهادة أن مُحَمَّدًا رَسُولُ الله: متابعة النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نسأل الله جَلَّ فِي عُلَاهُ أن ييسر لنا الإخلاص، وأن يرزقنا القبول، إن ربي قريب مجيب، اللَّهُمَّ يسِّر لنا الإخلاص يا رب العالمين، ووفِّقنا للإخلاص في الأقوال والأعمال وَالنِّيَّات.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
المعقد الثَّالِث
جمع همة النفس عَلَيْهِ
أي: المعقد الثَّالِث من معاقد تعظيم العلم (جمع همة النفس عَلَيْهِ) دعونا نقرأ كلام الْمُصَنِّف في هذا المعقد.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
فَإِنَّ شعث النفس إذا جُمع عَلَى العلم التأم، واجتمع، وإذا شغل بِهِ وبغيره ازداد تفرقًا وشتاتًا، وَإِنَّمَا تُجمع الهمة عَلَى المطلوب بتفقد ثلاثة أمور:
أولها: الحرص عَلَى ما ينفع، فَمَتَى وُفِّق الْعَبْد إلى ما ينفعه حرص عَلَيْهِ.
ثانيها: الاستعانة بالله عَزَّ وَجَلَّ في تحصيله.
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى
فأوَّل ما يجني عَلَيْهِ اجتهاده
ثالثها: عدم العجز عَنْ بلوغ البغية منه.
وَقَدْ جُمعت هذه الأمور الثلاثة في الحَدِيْث الذي رواه مسلم بْن الحجاج، قَالَ: حدَّثنا أبو بكر بْن أبي شيبة وابن نمير، قالا: حدثنا عبدالله بْن إدريس عَنْ ربيعة بْن عثمان، عَنْ مُحَمَّد بْن يحيى بْن حبان، عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «احرص عَلَى ما ينفعك، واستعِن بالله ولا تعجز».
تأملوا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- كيف جمع النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أُوتي الكلم بأبي هُوَ وأمي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الأمور الثلاثة في هذا الحَدِيْث بأقل عبارة، وأوجز عبارة، وأفصح عبارة!
وهذه قاعدة -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- ينبغي أن نعتقدها في النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أولًا: أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أعلم الناس بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فهو أعلم الناس.
ثانيًا: هُوَ أفصح الناس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثالثًا: هُوَ أنصح الناس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذا اعتقدنا هذه الأمور الأربعة في النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمكن بحال من الأحوال أن نُقدِّم قول غيره عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فينبغي أن نُؤصِّل هذه العقيدة في أنفسنا؛ وَهِيَ أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أعلم الناس بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وبشرعه، وهو أفصح الناس، كان كلامه فصيحًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجيزًا بليغًا، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنصح الناس ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصدق الناس، عُرف حَتَّى قبل البعثة بِأَنَّهُ الأمين صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
والمراد من كلامنا حول ما يختص بِهِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وما يتصف بِهِ هُوَ:
أن نحفظ هذا الحَدِيْث، وأن نضعه نصب أعيننا إذا ما أردنا الانشغال بطلب العلم «احرص عَلَى ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز».
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
فمن أراد جمع همته عَلَى العلم فليشعل في نفسه شعلة الحرص عَلَيْهِ؛ لأنه ينفعه، بل كُلّ خير في الدُّنْيَا والآخرة إِنَّمَا هُوَ ثمرة من ثمرات العلم.
اللَّهُ أَكْبَرُ، إذا كان كُلُّ خير في الدُّنْيَا والآخرة هُوَ ثمرة من ثمرات العلم أفلا يستحق هذا العلم أن نشمِّر له، وأن نحرص عَلَيْهِ؟!
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
وليستعن بالله عَلَيْهِ.
بلا شَكَّ لأنه إذا لم يستعن بالله كما مَرَّ معنا في البيت الذي معنا:
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى
فأول ما يجني عَلَيْهِ اجتهاده
إذا لم يعن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَبْد لم يتمكن من فعل أي عمل صالح ولا عِبَادَة، التوفيق لَا بُدَّ أن يكون قبل أن يعمل الْعَبْد أي عمل صالح، لَا بُدَّ أن يكون هناك توفيق من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليعمل هذا العمل، ولأهمية الاستعانة بالله، فَإِنَّ الصَّلَاة لا تصح إِلَّا بها؛ لأنها جزء من الفاتحة، قَالَ الله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5].
فَهٰذَا يشعرنا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- بأهمية الاستعانة بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى تحصيل كُلِّ ما ينفع من أمور الدُّنْيَا وَالآخرة، ومن ذَلِكَ طلب العلم، وَهُوَ الموضوع الذي نحن بصدده.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
ولا يعجز عَنْ شيء منه.
يَعْنِي بعض الْمَسَائِل قَدْ لا تتضح من أول مرة، قَدْ تقرأ كتابًا تفهم منه..
مَثَلًا كِتَابًا في التَّفْسِير، ما تفهمه بالكامل، فهمك له يكون مَثَلًا أربعين بالمائة، تقرأ كِتَابًا آخر في التَّفْسِير وإذا بك ترتفع في مستوى الفهم إلى خمسين أو ستين بالمائة، وهكذا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- فلا يعجز الْعَبْد، ولا مَثَلًا تمر عَلَيْهِ مَسْأَلَة فيها صعوبة فيتوقف عَنْ إكمال الطريق، أو يستصعب الطريق، أو يستصعب المشوار، لا، بل يستعين بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يقرأ أكثر، يسأل، يحاول أن يجعل الْمَسْأَلَة في ذهنه مرة واثنين وثلاثة، يكررها بينه وبين نفسه ومع أخوانه ومع شيوخه، وإذا بها تنفتح بعون الله إذا استعان بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وحرص عَلَى الدُّعَاء.
قَالَ الشَّيْخ وَفَّقَهُ اللهُ: (ولا يعجز عَنْ شيء منه) وأَيْضًا حَتَّى لا يصاب طالب العلم بالإحباط ينبغي له أن يتدرج في الطلب، فلا يبدأ بالمطولات، وَإِنَّمَا كما سيمر معنا يبدأ بالمختصرات.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
فإنه حِيْنَئِذٍ يدرك بغيته ويفوز بِمَا أمله.
قَالَ الجنيد رَحِمَهُ اللهُ: ما طلب أحدٌ شيئًا بجدٍّ وصدقٍ إِلَّا ناله، فَإِنَّ لم ينله كله نال بعضه.
من أعظم أسباب انقطاع طلاب العلم عَنْ مواصلة المشوار:
هُوَ: استطالة الطريق، وسيمر معنا بعون الله في كلام الْمُصَنِّف في أحد المعاقد، فلا يستطيل الطريق، أنت سائر إلى الله، إن مت في أول الطريق، أو مت في وسط الطريق، أو مت في آخر الطريق؛ فأنت عَلَى الطريق، يكفيك شرفًا أنك مت عَلَى طريق العلم وعَلَى الطريق الموصل إلى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، عَلَى صراط الله المستقيم، فلا تعجل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11].
هذه العجلة الَّتِي تكون في الإِنْسَان قَدْ تؤدي بِهِ إلى أن يُحرم العلم، وَالنَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الأناة من الله، والعجلة من الشيطان»، فلا يستعجل الْعَبْد، ولا ينظر إلى كتب العلم والمراجع ويجدها كبيرة ثُمَّ يستثقل قراءتها ويبتعد، بل يشغل نفسه بالمرحلة الَّتِي هُوَ فيها، بالكتب الَّتِي هِيَ في مرحلته، إن كان في أول الطريق أو في وسط الطريق أو في آخر الطريق، يشغل نفسه بالمرحلة الَّتِي هُوَ فيها، وبالزمن الذي هُوَ فيه، يجد ويجتهد ويحاول أن يُدرك الغاية في فهم ما هُوَ مشغول بِهِ من متون العلم وفنونه.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
الجد بالجد والحرمان بالكسل
فانصب تصب عَنْ قريب غاية الأمل
فانهض بهمتك واستيقظ من الغفلة، فَإِنَّ الْعَبْد إذا رزق همة عالية فتحت له أبواب الخيرات، وتسابقت إليه المسرَّات.
هنا الشَّيْخ بدأ يُحدث قارئ الْكِتَاب ويخاطبه مباشرةً، يستنهض همته، ويستفيقه من غفلته؛ فيقول: (فانهض بهمتك واستيقظ من الغفلة، فَإِنَّ الْعَبْد إذا رزق همة عالية فتحت له أبواب الخيرات، وتسابقت إليه المسرَّات).
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:قَالَ ابْن القيم رَحِمَهُ اللهُ في كتابه (الفوائد): إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة، وردفه قمر العزيمة، أشرقت أرض القلب بنور ربها، ومن تعلقت همته بمطعم أو ملبس أو مأكل أو مشرب لم يشم رائحة العلم.
واعلم بأن العلم لَيْسَ يناله
من همه في مطعم أو ملبس
فاحصر لتبلغ فيه حظًّا وافرًا
واهجر له طيب المنام وغلس
وإن مِمَّا يُعْلي الهمة ويسمو بالنفس: اعتبار حال من سبق، وتعرف همم القوم الماضية.
أبو عبدالله أحمد بْن حنبل كان -وَهُوَ في الصبا- ربما أراد الخروج قبل الفجر إلى حلق الشيوخ، فتأخذ أمه بثيابه وتقول رحمة بِهِ: (حَتَّى يؤذن الناس أو يصبحوا).
وقرأ الخطيب البغدادي رَحِمَهُ اللهُ صحيح البخاري كله عَلَى إسماعيل الحيري في ثلاثة مجالس؛ اثنان منها في ليلتين من وقت صلاة المغرب إلى صلاة الفجر، واليوم الثَّالِث من ضحوة النَّهَار إلى صلاة المغرب، ومن المغرب إلى طلوع الفجر.
قَالَ الذهبي في تاريخ الإِسْلَام: وهذا شيءٌ لا أعلم أحدًا في زماننا يستطيعه.
قَالَ الشَّيْخ صالح العصيمي -وَفَّقَهُ اللهُ- الْمُصَنِّف: رحم الله أبا عبدالله، كيف لو رأى همم أهل هذا الزمان، ماذا يَقُولُ؟!
وكان أبو مُحَمَّد بْن التبان أول ابتدائه يدرس اللَّيْل كله، فكانت أمه ترحمه، وتنهاه عَن القراءة بِاللَّيْلِ، فكان يأخذ المصباح ويجعله تَحْتَ الجفنة -شيء من الآنية العظيمة- ويتظاهر بالنوم، فإذا رقدت أخرج المصباح وأقبل عَلَى الدَّرْس.
وَقَدْ رأيت في بعض المجموعات الخطية في مكتبة نجدية خاصة، مِمَّا يُنسب إلى عبدالرحمن بْنَ الحسن آل الشَّيْخ -صاحب فتح المجيد- قوله:
شمر إلى طلب العلوم ذيولًا
وانهض لذلك بكرة وأصيلا
وصِلِ السؤال وكن هديت مباحثًا
فالعيب عندي أن تكون جهولا
فكن رجلًا رجله عَلَى الثرى ثابتة، وهامة همته فوق الثريا سامقة، ولا تكن شاب البدن أشيب الهمة، فَإِنَّ همة الصادق لا تشيب، كان أبو الوفاء بْن عقيل أحد أذكياء العالم من فقهاء الحنابلة ينشد وَهُوَ في الثمانين.
يَعْنِي عمره ثمانون سنة أيها الأحبة الكرام.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي
ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي
وَإِنَّمَا اعتاض شعري غَيْر صبغته
والشيب في الشعر غَيْر الشيب في الهمم
هذا المعقد أَيُّهَا الكرام عنون له الشَّيْخ صالح وَفَّقَهُ اللهُ بهذا العنوان؛ قَالَ: (همة النفس عَلَيْهِ) الْإِنْسَان -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- إذا كان مشغولًا بالدنيا وبالمال وجمع المال يصعب أن يحصل العلم؛ فلذلك ينبغي للعبد أن يُقلِّل من الشواغل، نحن مشكلتنا في هذا الزمان أن الشواغل كثيرة، الجوال يشغلنا، والتطبيقات تشغلنا، وحسابات التواصل الاجتماعي تشغلنا، فتجد أننا لا نجد وقتًا لطلب العلم، وإن بدأنا نقرأ أو بدأنا نحضر الدروس فالذهن مشغول، الذهن ذاهب، لا نتمكن من التركيز؛ لأن النفس مشتتة أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام.
فنحن إن أردنا أن نُحصِّل العلم، ينبغي أن نجمع همة النفس عَلَيْهِ، كيف نجمع همة النفس عَلَيْهِ؟ يَعْنِي نقلل من الشواغل، شيء ما له داعي، ما له داعي ألغِه من حياتك حتى تتفرغ؛ لأنه يشغل مساحة، في النهاية حياتك عبارة عَنْ مساحة مثل مساحة الغرفة، أو مثل الكأس كلما كانت مملوءة، وتريد أن تضيف فيها شيئًا إضافيًّا تجد أنه ما فيها مكان، أنت وقتك كله صار مشغولًا ما بين وسائل التواصل، ما بين المكالمات، ما بين الاتصالات، وضياع الوقت هنا وهناك، أين سيجد العلم مكانًا في حياتك؟ لا، إنه ينبغي أن تعمل إزاحة، كما يَقُولُ أخواننا المصريين: (تزق الحتة الفلانية شوية)، وتبعد عندك هذه، تلغي هذه من حياتك، صار فيه فراغ، الفراغ هذا نعمة، الفراغ نعمة إذا وجد في حياة الْعَبْد بنص قول رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
ترى بعض الناس تبدأ تتكلم معه فيقول: والله أنا مشغول، ولكن لا تحس بنفسك أَنَّهُ شيء جيد أنك مشغول، إِلَّا إذا كنت مشغولًا بطاعة الله، إِلَّا إذا كنت مشغولًا بالخير، هذه نعمة، لكنك تكون مشغولًا في أمور تافهة، في أمور لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر، أو في أمور قَدْ تستغني عنها، أي شيء ممكن تستغني عنه استغنِ عنه؛ حَتَّى تعطي مساحةً للعلم، حَتَّى تعطي مكانًا، لأجل أن تحضر درسًا لَا بُدَّ أن يكون فيه وقت معين تقتطعه من يومك لحضور الدَّرْس، هذا الوقت لو أن يومي كله مشغول من أين أجد الوقت لحضور الدَّرْس؟ بعد ذلك تبدأ تسجل، تَقُولُ: أسمع الدَّرْس مسجلًا، وبعد ذلك تجد نفسك ضيَّعت حضور الدَّرْس، أو حضور الدروس.
القراءة نفس الْكَلَام، القراءة تحتاج إلى وقت، حتى تقرأ في كلام أهل العلم وترجع إلى كتب أهل العلم، وتقرأ في التَّفْسِير، وتقرأ في غيره من الفنون، يحتاج الأمر إلى وقت.
أنا يومي كله مشغول، من أين سأجد وقتًا للقراءة؟ لا يوجد، فاقد الشيء لا يُعطيه -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- فلهذا جاء هذا المعقد يَقُولُ لنا: فرِّغوا أنفسكم للعلم، أي أمر يمكنك أن تستغني عنه مِمَّا يشغل وقتك استغنِ عنه، ما دام لَيْسَ فيه قربة إلى الله، ويمكنك أن تستغني عنه فاستغنِ عنه، الأخبار؛ ما هُوَ ضروري أن أعرف كُلِّ الذي يصير في العالم لحظة بلحظة، أنا لست مراسلًا في واحدة من القنوات، ولست كاتبًا في صحيفة حتى آخذ الْكَلَام وغدًا ورائي مقال أكتبه وأنزله بالجريدة، يكفيك أن تعرف الآن أحوال أخواننا في فلسطين وهي لا تخفى عَلَى أحد.
أنت لَا بُدَّ أن تعلم أحوال الْمُسْلِمِينَ، ما تجلس كالأعمى ما يدري ما يحدث، علمت الأخبار فما هُوَ العمل؟ العمل هُوَ أنك تبدأ بِالدُّعَاءِ لهم، تبدأ تذكرهم بدعائك وتعمل ما تستطيع، أَمَّا أنك تظل متابعًا طوال اللَّيْل وَالنَّهَار لتغريدات فُلَان، وفلان إيش قَالَ؟ هذا شغل، حَتَّى حفظ الْقُرْآن سيصبح صعبًا عليك، وَهُوَ حفظ الْقُرْآن الذي هُوَ الدرجة الأُوْلَى في سلم طلب العلم، ستجد فيه صعوبة، الْقُرْآن يحتاج إلى وقت للحفظ، ووقت للمراجعة.
لو تلاحظون نحن نلف وندور عَلَى موضوع الوقت، فعلًا الوقت كنز، إِنَّمَا يعرف قيمة الوقت حقيقة الْعَبْد الْمُسْلِم الذي يرجو ما عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فاللحظة في حياة الْمُسْلِم تعني له أكثر مِمَّا تعني لأي شخص من أي ديانة أخرى؛ لأن الْمُسْلِم يعلم أن وراء هذه الدُّنْيَا آخرة، ووراء هذا الوقت حساب عليه «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حَتَّى يُسأل عَنْ أربع: عَنْ ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعَنْ جسمه فِيمَا أبلاه، وعن علمه ماذا عمل فيه؟»، والحديث له عدد من الروايات أو كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حَتَّى يُسأل عَنْ عمره فِيمَا أفناه، وعن علمه فِيمَا فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فِيمَا أبلاه»، فإذا علمنا -أَيُّهَا الأَحِبَّة الكرام- أننا مسئولون فلنُعِدَّ للسؤال جوابًا، من علم أَنَّهُ يقف بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾ [الصافات: 24]، وأن الله جَلَّ وَعَلَا سيخاطبه ليس بينه وبين الله جَلَّ وَعَلَا ترجمان «ما من أحد إِلَّا وسيكلمه ربه لَيْسَ بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إِلَّا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إِلَّا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إِلَّا النَّار، فاتقوا النَّار ولو بشق تمرة»، ومن أعظم ما تُتَّقى بِهِ النَّار طلب العلم، ومن أعظم ما تطلب بِهِ الجَنَّة طلب العلم.
فنسأل الله جَلَّ وَعَلَا أن يوفقنا وَإِيَّاكُمْ للعلم النافع والعمل الصالح، وجزاكم الله خيرًا لحضوركم واستماعكم.
الطَّالِبُ: ما نصيحتك للطالب الذي يدرس أكثر من علم من المختصرات، كيف يمكن أن ينظم جدوله في التَّعَلُّم، أو تنصح بأن يدرس علمًا واحدًا ثُمَّ ينتقل إلى الذي بعده؟
الشَّيْخُ: نعم، هذا الذي يُنصح بِهِ، وسيمر معنا في (معاقد تعظيم العلم) أن الذي ينصح بِهِ طالب العلم بأن يبدأ بعلم وفن واحد، ثُمَّ ينتقل إلى الذي بعده.
الطَّالِبُ: ما هِيَ أفضل العلوم الَّتِي يمكن أن نبدأ في تعلمها؟
الشَّيْخُ: أنا أسمع أن الأفضل البدء بالقرآن بلا شَكَّ، البداية هِيَ مع حفظ الْقُرْآن وتعلم الْقُرْآن؛ لأن الْقُرْآن يعطي الْإِنْسَان الفصاحة ويعطيه الْبَلَاغَة، ويعطيه الفهم، ويعطيه العلم، ويعطيه النور، ويعطيه البركة، ويعطيه الهداية، ويعطيه الصلاح، ويعطيه الإيمان، ويعطيه قوة العلاقة مع الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
فالقرآن جالب لكل الخيرات، ودافع للشرور عَن الْإِنْسَان، فيقوى إيمان الْعَبْد، فيبدأ في الابتعاد عَن المعاصي ويترك المعاصي؛ لأنه أصبح من أهل الْقُرْآن، صاحب قرآن، فيبتعد عَن المعاصي ويترك الذنوب كما مَرَّ معنا في المعقد اَلْأَوَّل (تطهير وعاء العلم) ثُمَّ يقبل عَلَى الطاعات، فيزداد إيمانًا ويسهل عَلَيْهِ طلب العلم؛ لأن نفسه أصبحت زكية، فالقرآن يزكي النفس، ويُطهِّر الأخلاق، ويسمو بهذه النفس لترتقي إلى أعالي القمم، وتكون مهيئة لتقبُّل العلوم وما نفع، حَتَّى العقل يصبح صافيًا، سُبْحَانَ اللَّهِ! لمن تعلم الْقُرْآن وداوم عَلَى تلاوته، الذهن يصبح قويًّا، تصبح حدة عند الْإِنْسَان في الفهم وفي التَّحْلِيْل، وفي البحث، وفي المناقشة، وفي الطرح وفي الأسلوب، سُبْحَانَ اللَّهِ! أصبح الْقُرْآن وقد شكَّل شخصية علمية، الْقُرْآن يشكل الشخصية العلمية الَّتِي تنجح بعون الله في أي نوع من أنواع العلوم، حَتَّى إنَّهُ كثيرًا من الناس الَّذِينَ برعوا في العلوم الدنيوية هم أصلًا من حُفَّاظ الْقُرْآن، فنسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن يوفِّقنا وَإِيَّاكُمْ للعلم النافع والعمل الصالح.
الطَّالِبُ: ما رأيك في دراسة علم الْقُرْآن مع حفظه وتفسيره؟
الشَّيْخ: هُوَ كان هذا فعل السَّلَف عَلَيْهم رَحْمَةُ اللهِ كانوا يتعلمون الْقُرْآن، ولا يتجاوزن عشر آيات حَتَّى يعلمون ما فيها من علمٍ وعمل، ويعملون بها، فيتعلم الإِنْسَان الْقُرْآن ويحاول أصلًا إذا عرف معنى الآيات الَّتِي يحفظها يسهل الحفظ وترسخ الآيات في الذهن؛ لأنه مستحضر للمعاني، بِلَا شَكَّ تعلم الْقُرْآن وتعلَّم تفسيره، وتعلَّم معاني الآيات، وتدبَّر الْقُرْآن هُو هذا..
العلم كما قَالَ ابْن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
فتدبر الْقُرْآن إن رُمْت الهُدى
فالعلم تَحْتَ تدبُّر الْقُرْآن
البيت هذا أعتقد أَنَّهُ يلخص الأمر، قَالَ:
فتدبر الْقُرْآن إن رمت الهدى
فالعلم تَحْتَ تدبر الْقُرْآن
كأن تدبر الْقُرْآن مظلة تحتها العلم، فمن اشتغل بالقرآن حصل علمًا وافرًا، وزكت نفسه، وطهرت أخلاقه، وقرب من ربه جَلَّ فِي عُلَاهُ -وَفَّقَكُمْ اللهُ- لكل خير، هذا واللهُ أَعْلَمُ.
سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، نشهد أن لا إله إِلَّا أنت نستغفرك ونتوب إليك، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين.