الحياء
مدة
قراءة المادة :
26 دقائق
.
الحياءبسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
تعريف الحياء:
الحياء في اللغة: تغير وانكسار يعترى الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه.
قال الراغب: (الحياء انقباض النفس عن القبيح وهو من خصائص الإنسان؛ ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي فلا يكون كالبهيمة، وهو مركب من جبن وعفة، فلذلك لا يكون المستحي فاسقاً، وقلما يكون الشجاع مستحياً، وقد يكون لمطلق الانقباض كما في بعض الصبيان) [فتح الباري: 1/ 74].
واصطلاحاً: قال الحافظ ابن حجر: (خُلق يبعث صاحبه على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ) [فتح الباري:1/ 68]
وقيل: هو انقباض النفس عن القبائح، وقيل: هو أن لا يفتقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك.
من فضائل الحياء:
1- الحياء مفتاح كل خير: عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الحياء لا يأتي إلا بخير "[ البخاري ومسلم]
قال ابن القيم-رحمه اللَّه: (الحياء أصل كل خير وذهابه ذهاب الخير أجمعه) [الداء والدواء 96].
2- الحياء مغلاق لكل شر: عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ ممَّا أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت " [البخاري]
قال المناوي عن القاضي:( معناه أن مما بقي فأدركوه من كلام الأنبياء المتقدمين أن الحياء هو المانع من اقتراف القبائح والاشتغال بمنهيات الشرع ومستهجنات العقل وذلك أمر قد علم صوابه وظهر فضله واتفقت الشرائع والعقول على حسنه وما هذه صفته لم يجر عليه النسخ والتبديل) [فيض القدير ج1/ ص43].
قال ابن القيم -رحمه الله-: (خُلق الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا بل هو خاصة الإنسانية، فَمَن لا حياء فيه فليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة كما أنه ليس معه من الخير شيء "[مفتاح دار السعادة 227 ]
3- الحياء مفتاح لكل الطاعات: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"[ البخاري ومسلم] معنى ذلك أن الحياء الحقيقي يحفزك على فعل باقي شعب الإيمان الكثيرة وكافة الطاعات.
4- الحياء مفتاح محبة اللَّه تعالى: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اللَّه تعالى إذا أنعم على عبد يحب أن يرى أثر النعمة عليه ويكره البؤس والتباؤس، ويبغض السائل الملحف ويحب الحيي العفيف المتعفف"[صحيح الجامع للألباني 171].
فاللَّه -تعالى -يحب الحياء وأهله ومن أحبه الله كان بلا شك من أهل السعادة في الدنيا والآخرة.
5- الحياء من مفاتيح الزينة والبهاء: عن أنس -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه"[الترمذي وصححه الألباني]
قال القرطبي: ( من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار بأن يُوقر غيره ويتوقر هو في نفسه ) [الفتح 10/ 538].
6- الحياء من مفاتيح الجنة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة " [الترمذي وصححه الألباني].
أقوال في الحياء:
قال بعض الحكماء: من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه.
وقال بعض البلغاء: حياة الوجه بحيائه كما أن حياة الغرس بمائه.
قال بعض البلغاء العلماء: يا عجباًَ! كيف لا تستحي من كثرة ما لا تستحي، وتتقي من طول مالا تتقي؟!
وقال صالح بن عبد القدوس:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه
ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياءك فاحفظه عليك وإنما
يدل على فعل الكريم حياؤه
وقال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء، وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح وبمنع من التفريط في حق صاحب الحق.
ومن كلام بعض الحكماء: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحى منه.
وقال الفضيل بن عياض: خمس علامات من الشقوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل.
وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من الله مطيعا استحيا الله منه وهو مذنب.
وكان يحي بن معاذ يقول: سبحان من يذنب عبده، ويستحي هو.
♦♦♦♦
إنه مما ينبغي أن يعلم أن:
الحياء من صفات الله عز وجل، يقول المصطفى عليه الصلاة: ((إن الله حيي كريم يستحي من عبده، إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا))[ أبو داود] والحياء من خلق المصطفى عليه الصلاة والسلام فلقد: ((كان أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئا عرف في وجهه)) مسلم.
الفرق بين الحياء والخجل عظيم:
ذلك لأن الحياء منقبة وفضيلة ومعناها هو أن يترفع العبد عن المعاصي والآثام وأما الخجل فإنه منقصة لشعور الإنسان بقصوره أمام الآخرين، فلا يطالب بحقه لخجله ولا يقول كلمة الحق لخجله ولا يتحدث أمام الآخرين لشعوره أن من معه خير منه، وعلى الجرأة ربى السلف الصالح أبناءهم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الأصحاب يوماً فقال: ((إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المسلم في نفعها)) فوقع الأصحاب في شجر البوادي، كل منهم يذكر اسم شجرة ورسول الله لا يوافقهم، كان في الأصحاب عبد الله بن عمر وكان صبياً يقول: فوقع في نفسي أنها النخلة، ولكن كان في المجلس أبو بكر وعمر فلم يتكلما، فاستحييت أن أتحدث بوجودهما ثم قال عليه الصلاة والسلام: إنها النخلة، فلما خرج عبد الله مع أبيه عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما- قال عبد الله: يا أبت والله لقد وقع في نفسي أنها النخلة، فقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-: والله لئن كنت قلتها، لهي أحب إلي من الدنيا وما فيها)) البخاري.
وباعث الحياء، إما أن يكون هو الله، وإما أن يكون الناس والعبد إذا لم يستح من الله ولم يستح من الناس كان هو والبهائم سواء.
يقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله تعالى في كتابه: (هكذا علمتني الحياة) يقول: (إذا همت نفسك بالمعصية فذكرها بالله فإن لم ترعوِ فذكرها بالناس، فإن لم ترعوِ فاعلم أنك قد انقلبت حمارا).
وأما لماذا الحياء؟
لأن العبد إذا رزق الحياء، رزق الفضائل، رزق الخلق الحميد، ابن القيم رحمه الله، في كتابه (مفتاح دار السعادة) يقول: (الحياء هو من أعظم الأخلاق وأكرمها ذلك لأنه مصدر الفضائل، فالولد يبر بوالديه بسبب الحياء، وصاحب الدار يكرم ضيفه بسبب الحياء، والعبد يفي بالموعد بسبب الحياء أيضا، لذلك عندما سئل المصطفى عليه الصلاة والسلام قال: ((إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء)) [مالك]
ومن الصحابة من عرف بالحياء، كعثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
استأذن أبو بكر وعمر وعلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان جالساً وقد بدت ركبتاه، فلما استأذن عثمان بالدخول غطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتيه، فلما خرجوا، سألت عائشة عن السبب فقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا استحي من رجل تستحي منه ملائكة السماء)) أحمد.
إذا فقد العبد الحياء ما الذي يكون؟
إذا فقد العبد الحياء فلا تراه إلا صفيقا بليدا لا يبالي بمشاعر الآخرين ليس عنده من رادع يمنعه من الوقوع في الإثم أو الوقوع في الدنايا، لا يعرف ربا ولا دنيا، ولا يعرف عرفا ولا يعرف خلقا.
لذا كان في إسلامنا أن فاقد الحياء لا غيبة له، يجوز لك أن تذكره بأفعاله السيئة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له)) [ابن عدي]
وعمر بن الخطاب – رضي الله عنه- يقول: (ثلاثة لا غيب لهم: المبتدع والفاسق المجاهر بفسقه، والحاكم الظالم) ثلاثة لا حرمة لهم ولا ما يقال في حقهم غيبة لأنهم فقدوا الحياء من الله، وفقدوا الحياء من الناس.
المرأة والحياء:
ينبغي أن يعلم أن أجمل ما في المرأة حياؤها، وصدق الله العظيم: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ....
﴾ [القصص: 25].
أعداء الله علموا أن أكرم ما في المرأة حياؤها، فوجهوا إلى هذا الحياء سهامهم، واستغلوها في الدعاية لأحذية لابد إلا أن يضع معها امرأة، والدعاية لإطارات لابد إلا أن يضع معها امرأة في وضع مهين، أو على أغلفة المجلات، حتى أصبح المثل السائد في الغرب (حبة عنب تساوي مائة امرأة) فسارت المرأة المسكينة كالبلهاء وراء الضباع باذلة لحيائها وشرفها.
وحفظ الإسلام للمرأة حياءها يوم فرض عليها الحجاب، وحرم عليها التبرج خارج بيتها فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33].
والغاية هي إقامة مجتمع نظيف لا تهيج فيه الشهوات ولا تستثار فيه الغرائز مما له الأثر المدمر في إشاعة الفاحشة والجريمة وفقدان مقومات البقاء، وتحقيق رغبة أعداء الله في السيطرة والتحكم.
إن الحياء لا يعني مجافاة الناس في العلاقات الاجتماعية ولا ادعاء ورع كاذب، فالرسول صلى الله عليه وسلم أتى على بعض نسائه ومعهن الصحابية أم سليم -رضي الله عنها- فقال: "ويحك يا أنجشة رويدك سوقًا بالقوارير"، فقال راوي الحديث أبو قلابة: فتكلم النبي بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه قوله: (سوقك بالقوارير).
♦♦♦♦
أقسام الحياء بحسب مصدره: قسمان:
أحدهما: الحياء الفطري: وهو ما كان خَلْقاً غير مكتسب، يرفع من يتصف به إلى أَجَلِّ الأخلاق، التي يمنحها الله لعبد من عباده ويفطره عليها، والمفطور على الحياء يكف عن ارتكاب المعاصي والقبائح ودنيء الأخلاق، ولذا كان الحياء مصدر خير وشعبة من شعب الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: " الحياء شعبة من شعب الإيمان".
وثانيهما: الحياء المكتسب: وهو ما كان مكتسباً من معرفة الله ومعرفة عظمته وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمه سبحانه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، والمسلم الذي يسعى في كسب وتحصيل هذا الحياء إنما يحقق في نفسه أعلى خصال الإيمان وأعلى درجات الإحسان.
قال ابن حجر – رحمه الله- عن أقسام الحياء وأرشد متى يكون شرعياً يثاب عليه من تحلى به:( بأنه قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقاً ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب، وعلم، ونية، فهو من الإيمان لهذا ولكونه باعثاً على فعل الطاعة، وحاجزاً عن فعل المعصية ولا يقال رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير لأن ذاك ليس شرعياً )[فتح الباري:1/ 52].
أنواع الحياء بحسب حكمه: نوعان:
الأول: ممدوح: وهو ما وقع وفق ما طلبه الشرع.
الثاني: مذموم: وهو ما ترتب عليه ترك أمر شرعي.
قال ابن حجر – رحمه الله -:( إن الحياء من الإيمان وهو الشرعي الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام للأكابر وهو محمود.
وأما ما يقع سبباً لترك أمر شرعي فهو مذموم، وليس هو بحياء شرعي، وإنما هو ضعف ومهانة، وهو المراد بقول مجاهد لا يتعلم العلم مستحي) [فتح الباري 1/ 229]
فالحياء: (إن كان في محرم فهو واجب، وإن كان في مكروه فهو مندوب وأن كان في مباح فهو العرفي) [فتح الباري 1/ 75]
لطيفة في عدم التعرض لبعض المسائل الاجتماعية بدعوى الحياء:
يجب على طلبة العلم خاصة الدعاة منهم أن يتحرروا من عقدة عدم مناقشة مختلف القضايا الموجودة بشكل جدي في واقعهم، والسكوت عنها بدعوى الخجل والحياء، فالحياء في ديننا له أسس ومفاهيم تحكمه.
إن هذه العقدة تنحل بمعرفة الضوابط التي ينبغي أن نتمسك بها عند التعرض لمثل هذه القضايا الحرجة، والحدود التي ينبغي الوقوف عندها.
إنه مما ينبغي أن لا يكون الحياء مانعا للمسلم أبدا من أن يتعلم أمور دينه ودنياه، فقد روى البخاري أن أم سليم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت الماء".
فنرى أن أم سليم قد علمت أن دينها يفرِض عليها العِلم، لذا لم تستحي من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما دعت الحاجة إليه مما تستحيي النساء في العادة من السؤال عنه وذِكْره بحضرة الرجال، وقدمت لسؤالها بقولها: "إن الله لا يستحيي من الحق"، حتى تقطع الطريق على من قد يسمع سؤالها، فيتبادر إلى ذهنه أن سؤالها هذا ينافي الحياء.
من هنا نعلم أنه يجب مناقشة جميع المسائل الحياتية، وألا نمتنع عنها حياء من ذِكْرها، فإن ذلك ليس حياء حقيقيا؛ لأن الحياء خير كله، والحياء لا يأتي إلا بخير، والإمساك عن تناولها في هذه الحال ليس بخير، بل هو شر؛ لأن فيه الإقامة على الجهل وتعطيل واجبات الدين، فكيف يكون حياء؟.
ولكن مع ذلك، يجب أن يختار الداعية الكلمات والتعبيرات المناسبة، دون استطراد لا لزوم له، أو ابتذال خارج عن حدود السؤال، كما عودنا أسلوب القرآن، وأسلوب السنة المطهرة.
ولقد مدحت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نساء الأنصار..
هل تعلم لماذا؟ فلنسمعها وهي تقول: "نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين" رواه مسلم.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ بن جبر، وهو من التابعين: "لا يتعلم العلم مستحيٍ ولا مستكبر".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكَني عما يضطره الكلام إليه من أمور يُستحيَا من ذكرها، فقد سألته امرأة عن كيفية الغسل مِنَ الحيْض، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم كيف تغتسل، ثم قال: "خُذِي فِرْصَة – قطعة من قماش – من مسك فتطهري بها"، فقالت: كيف أتطهر؟ قال: "تطهري بها"، قالت: كيف؟ قال: "سبحان الله، تطهري"، فلما رأت السيدة عائشة أن المرأة رغم كل هذا لم تفهم، ورأت حياء النبي صلى الله عليه وسلم من التصريح بما يريد، جذبت المرأة إليها وقالت لها: "تتبعي بها أثر الدم" رواه البخاري
وأما أنواع الحياء الصادر من الإنسان:
أولا: فأكرم الحياء وأعظمه هو الحياء من الله عز وجل في ثلاثة مواضع، وهي:
أ- الحياء من أن تقابل إحسان الله بالإساءة ونعمه بالجحود، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((أنا والجن و الإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، أتحبب إليهم بالنعم ويبتعدون عني بالمعاصي، خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد))[ البيهقي ].
جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم يقول: إن نفسي تراودني المعصية ولا أستطيع كبح جماحها، فماذا أفعل؟ قال: إذا وفيت بخمس فاعص الله ما شئت، قال: وما هي؟ قال: إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزقه، ولا تنم في أرضه، ولا تعصه أمام عينيه قال: وكيف يكون هذا؟ وكل ما في الأرض لله والأرض ملكه، والسماء سماؤه، وفي أي ركن أكون منها، فالله تعالى يعلم السر وأخفى! قال: أما تستحي أن تأكل من رزقه وتنام على أرضه وتعصه أمام عينيه؟ قال: إذا أردت أن تعصي الله وجاءك ملك الموت فلا تذهب معه أو جاءتك زبانية العذاب فلا تذهب معهم، قال: وكيف يكون هذا؟: ﴿ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [يونس: 49] ﴿ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، قال: فإذا علمت قدر نفسك، لا تستطيع أن ترد ملك الموت، أو زبانية العذاب فلم تعصه؟ فكانت توبة بعد ذلك نصوحاً.
ب- ومما ينبغي لزوم الحياء به بينك وبين الله تعالى هو ألا تتضجر عند البلاء فتنسى قديم إحسان الله إليك ذكر الإمام الألوسي رحمه الله تعالى: (أن أيوب عليه السلام عندما فقد المال وفقد الولد وفقد عافيته، قالت له زوجته: أنت نبي الله فلو سألت الله تعالى أن يرفع عنك البلاء لفعل، فقال لها أيوب عليه السلام: كم مضى علينا ونحن في عافية؟ قالت: ستين سنة قال: والله إني لأستحي أن أسأل الله رفع البلاء وما بلغت في البلاء ما بلغته في العافية) [تفسير الألوسي ج 17 ص 80].
ج- من حياء العبد مع الله عز وجل أيضا أن يحفظ العقل من أن يكفر بأمر إجرامي أو معصية أو أن تدخل فكرة منحرفة إلى عقله، وأن يحفظ جوفه عن الحرام، قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((استحيوا من الله حق الحياء؟ قالوا: وكيف نستحي من الله حق الحياء؟ قال:أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، ومن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) [الترمذي].
ثانيا: ومن الحياء أيضا حياء العبد في نفسه، وينبغي أن يحرص صاحب الحياء على أن تكون سمعته كريمة بيضاء ناصعة لا تمس بشائبة أبدا، خرج النبي عليه الصلاة والسلام يوماً في الليل حتى يوصل إحدى زوجاته إلى دارها فمر به رجلان من الأصحاب فلما رأيا رسول الله ومعه امرأة، أسرعا في مشيهما فنادى عليهما صلى الله عليه وسلم وقال: ((على رسلكما إنها صفية، قالا: سبحان الله يا رسول الله أنشكّ بك؟ قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلبيكما شرا)) [الشيخان].
صاحب العفاف ينأى بمائه عن أن يضعه إلا في الموضع الكريم الذي أذن الله تعالى به، لأنه يعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنب أعظم عند الله من نطفة يضعها رجل في رحم لا يحل له)) [ابن أبي الدنيا].
وهذا يوسف عليه السلام وقد دعته امرأة العزيز وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك.
قال: (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي )[يوسف:23].
شهوة ومتعة يتكالب عليها السفلة يدوسها يوسف عليه السلام بقدمه وفي واقعنا متقاعدون قد بلغوا من الكبر عتيا قد جعلوا من بلاد الفساد سكنا لهم ولا يأتون إلى دورهم إلا في المناسبات وآخر يوصي ابنته أن تغرزه الإبر وتعطيه الحبوب حتى يتقوى بها على الحرام، هل يبقى للبنت بعد ذلك من حياء؟
جاء في بعض كتب الله المنزلة: ((عبدي دق عظمك وانحني ظهرك، وشاب شعرك، فاستحِ مني فإني أستحي منك))، يا أبناء الخمسين زرع قد دنا حصاده؟ ويا أبناء الستين ماذا قدمتم؟ ويا أبناء السبعين هلموا إلى الحساب؟ يقول عليه الصلاة والسلام: ((أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)) [الترمذي].
من حياء العبد في نفسه أن يحفظ عورته، في الحمامات مثلا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة"[مسلم] إلا الزوجة للحديث: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك)) [أحمد وأصحاب السنن].
ثالثا: ومن الحياء أيضا حياء العبد في مجلسه وينبغي للعبد في مجلسه أن يتكلم بالخير أو ليصمت، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) [متفق عليه]، أما فاقد الحياء فإنه لا يجد ألذ من أن يتحدث بالذي يكون بينه وبين أهله سفلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد صلى بالناس فالتفت، فقال: ((أيكم الرجل الذي إذا أراد أن يأتي أهله أغلق بابه وأرخى ستره، ثم جامع أهله، ثم يخرج إلى الناس يقول: فعلت بأهلي كذا وكذا، فسكت القوم، فجلست امرأة على ركبتيها وقالت: والله يا رسول الله إنهم ليتحدثون وإنهن ليتحدثن، فقال عليه الصلاة والسلام: أتدرون ما مثل من يفعل ذلك؟ إن مثل من يفعل ذلك مثل الشيطان أتى شيطانة في قارعة الطريق فجامعها والناس ينظرون إليهما)) [أحمد].
أو أن يتحدث عن ماضيه القبيح وما كان فيه من الآثام والمعاصي لا على جهة الندم أو أخذ العبرة منه، وإنما على سبيل التفاخر والندم على الأيام التي مضت وليتها عادت من جديد، أمثال هؤلاء لا مغفرة لهم، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي معافى -أي معفو عنهم- إلا المجاهرون))[ متفق عليه].
ومن المجاهرة أن يعمل العبد العمل بالليل ويصبح وقد ستره الله فيقول: ((يا فلان عملت البارحة كذا وكذا! بات يستره الله وأصبح يفضح نفسه)) [أبو داود والترمذي].
رابعاً: ومن الحياء، الحياء مع الوالدين ومع ذوي الفضل والعلم.
رأى أبو هريرة – رضي الله عنه- غلاما يمشي مع رجل فقال للغلام: من هذا منك.
قال: أبي، قال: اسمع! لا تمش أمامه، ولا تجلس قبله، ولا تناده باسمه.
وأما مع العلماء: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((العلماء ورثة الأنبياء)) [أبو داود والترمذي]
ويدعونا إلى التواضع لما لهم من علم كريم، يقول عليه الصلاة والسلام: ((تعلموا العلم، وتعلموا للعلم سكينته وتواضعوا لمن تعلمون منه)) [الطبراني في الأوسط].
♦♦♦♦
من مظاهر قلة الحياء في قلوب بعض الرجال:
استقدامهم النساء الأجنبيات السافرات أو الكافرات وخلطهم لهن مع عوائلهم داخل بيوتهم وجعلهن يزاولن الأعمال بين الرجال، وربما يستقبلن الزائرين، ويقمن بصب القهوة للرجال.
أو استقدامهم للرجال الأجانب سائقين وخدامين؛ يطلعون على محارمهم ويخلون مع نسائهم في البيوت وفي السيارات في الذهاب بهن إلى المدارس والأسواق، فأين الغيرة وأين الحياء وأين الشهامة والرجولة؟!.
ومن ذهاب الحياء في بعض النساء اليوم:
ما ظهر في كثير منهن من عدم التستر والحجاب، والخروج إلى الأسواق متطيبات متجملات لابسات لأنواع الحلي والزينة، لا يبالين بنظر الرجال إليهن، بل ربما يفتخرون بذلك، ومنهن من تغطي وجهها في الشارع وإذا دخلت المعرض كشفت عن وجهها وذراعيها عند صاحب المعرض ومازحته بالكلام وخضعت له بالقول، لتطمع الذي في قلبه مرض.
أين الحياء ممن ضيعوا أولادهم في الشوارع يخالطون من شاؤوا ويصاحبون ما هب ودب من ذوي الأخلاق السيئة، أو يضايقون الناس في طرقاتهم ويقفون بسياراتهم في وسط الشارع؛ حتى يمنعوا المارة، أو يهددون حياتهم بالعبث بالسيارات وبما يسمونه بالتفحيط؟!.
أين الحياء من المدخن الذي ينفث الدخان الخبيث من فمه في وجود جلسائه ومن حوله، فيخنق أنفاسهم ويقزز نفوسهم ويملأ مشامهم من نتنه ورائحته الكريهة؟!.
أين الحياء من التاجر الذي يخدع الزبائن، ويغش السلع، ويكذب على الناس؟
أين الحياء ممن يتعامل بالربا!! أين الحياء من الموظف -أين كانت وظيفته - المستهتر بعمله وواجبه تجاه وظيفته فتراه يوزع وقت العمل بالقيل والقال وشرب الشاي!!
إن الذي حمل هؤلاء على النزول إلى هذه المستويات الهابطة هو ذهاب الحياء كما قال صلى الله عليه وسلم: (( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوا الله في تصرفاتكم، قال تعالى: ﴿ إنّ الذين يَخْشَوْنَ ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبي ر* وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 12، 14].