أرشيف المقالات

الوفيرة في حكم الفرع والعتيرة

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
الوفيرة في حكم الفرع والعتيرة

باسم الله، والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
 
وبعد:
فإنَّ الذَّبح عِبادة بدنيَّة ماليَّة، لا تشرع إلَّا بدليل؛ لأنَّ الأصل في العبادات التوقُّف.
 
ومن هذه العبادات: الذَّبائح، ومن الذبائح: ذبيحة العَتيرة.
 
وهي: بفتح العين المهملة، تُطلق على شاةٍ كانوا يَذبحونها في العشر الأول من رجَب، وعلى الذَّبيحة التي كانوا يَذبحونها لأصنامِهم، ثم يصبُّون دمَها على رأسها.
 
وقد اختلف الفقهاءُ في حكمها، على أقوال، ملخَّصها قولان:
الأول: الكراهة؛ وهو قول المالكيَّة، وقولٌ لبعض الشافعيَّة، والحنابلة؛ وذلك بناء على أنَّ فعل العتيرة مَنسوخ.
واستدلُّوا بحديث أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((لا فَرَع ولا عَتيرة)).
 
الثاني: الاستحباب؛ وهو قول لبعضِ الشافعيَّة والحنابلة، وذهبوا إلى عدم النَّسخ؛ وهو قول ابن سيرين وغيره من العلماء.
قال ابن رجب: وحكاه الإمام أحمد عن أهل البصرة، ورجَّحه طائفةٌ من أهل الحديث المتأخِّرين؛ (اللطائف).
 
ومما استدلُّوا به:
ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بسنَد حسَن عن مخنف بن سليم الغامدي، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال بعرفة: ((إنَّ على كلِّ أهل بيت في كلِّ عام أضحية وعَتيرة، وهي التي يسمُّونها الرَّجَبيَّة))؛ أخرجه البيهقي، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
 
قال الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان، معلِّقًا على هذا الحديث: "...
والعتيرةُ: الذَّبيحة في رجَب، وهذه الذَّبيحة قال أهلُ العلم: منسوخة، والرَّاجح نسخ الوجوب فقط وليس نسخ الأصل، فمِن السُّنَّة أنَّ كل أهل بيت يَذبحون ذبيحةً في رجب، وهذه سُنَّة مهجورة".
 
من السنَّة ذبْح ذَبيحة في رجب؛ اه‍.
وفي سنن النَّسائي بسنَد صحيح، عن نبيشة بن عمرو الصَّحابي رضي الله عنه، أنَّهم قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نُعتِّر فيه، في الجاهلية - يعني في رجب - قال صلى الله عليه وسلم: ((اذبحوا لله في أيِّ شهرٍ كان، وبرُّوا اللهَ وأطعموا)).
 
قلتُ: فلم يحرِّمه، ولم يقل فيه شيئًا، والقاعدة: (لا يجوز تَأخير البيان عن وقت الحاجَة) كما هو معلوم.
 
وروى الحارث بن عمرو رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، سُئل عن الفَرَع والعتائر، فقال: ((مَن شاء فرَّع ومن شاء لم يفرِّع، ومن شاء عتَّر ومن شاء لم يعتِّر)).
 
وفي حديث آخر بسند حسَن، قال صلى الله عليه وسلم: ((العتيرة حقٌّ))، وحسَّنه الألبانيُّ.
 
قال ابن رجب رحمه الله: وهؤلاء جمعوا بين هذه الأحاديث، وبين حديث أبي هريرة ((لا فَرَع ولا عتيرة)) بأنَّ المنهي عنه هو: ما كان يَفعله أهل الجاهليَّة من الذَّبح لغير الله، وحمله سفيان بن عُيينة على أنَّ المراد به نفي الوجوب؛ (اللطائف).
 
وقال الحافظ ابن حجر، في تعليقه على حديث البخاري: ((لا فَرَع ولا عتيرة)): "والفرع: أول النتاج، كانوا يَذبحونه لطواغيتهم، والعتيرة: في رجب"، وقوله: (كانوا يَذبحونه لطواغيتهم)، زاد أبو داود عن بعضهم: (ثمَّ يأكلونه ويلقى جلده على الشَّجر)، ففيه إشارة إلى علَّة النَّهي، واستنبط الشافعيُّ منه: الجواز؛ إذا كان الذَّبح لله، جمعًا بينه وبين حديث ((الفَرَع حقٌّ))؛ وهو حديث أخرجه أبو داود والنَّسائي والحاكم، من رواية داود بن قيس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو.
 
وقال الشافعيُّ فيما نقله البيهقي من طريق المزني عنه: الفَرَع شيء كان أهل الجاهلية يَذبحونه يَطلبون به البركةَ في أموالهم، فكان أحدهم يذبح بكر ناقته أو شاته رجاء البرَكة فيما يأتي بعده، فسألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن حكمِها فأعلمَهم أنَّه لا كراهة عليهم فيه، وأمرهم استحبابًا أن يتركوه حتى يُحمل عليه في سبيل الله.
 
وقوله ((حقٌّ))؛ أي: ليس بباطل، وهو كلام خرَج على جواب السائل، ولا مُخالفة بينه وبين الحديث الآخر: ((لا فَرَع ولا عتيرة))؛ فإنَّ معناه لا فرَع واجبٌ، ولا عتيرة واجِبة، وقال غيره: معنى قوله: ((لا فرَع ولا عتيرة))؛ أي: ليسا في تأكُّد الاستحباب كالأضحية؛ والأوَّل أولى.
 
وقال النوويُّ: نصَّ الشافعي: على أنَّ الفرَع والعتيرة مستحبان.
وقال أيضًا: الصَّحيح عند أصحابنا استحباب الفرَع والعتيرة.
 
وأجابوا عن حديث: ((لا فرَع ولا عتيرة)) بثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ المراد نفي الوجوب.
الثاني: أنَّ المراد نفي ما كانوا يَذبحونه لأصنامهم.
الثالث: أنَّ المراد أنَّهما ليسا كالأضحية في الاستحباب أو ثواب إراقة الدَّم.
 
فأمَّا تفريق اللَّحم على المساكين فبرٌّ وصدَقة، وقد نصَّ الشافعي أنَّها إن تيسرَت كل شهر كان حسنًا.
[شرح مسلم 13/ 137].
 
وأورد المجد ابن تيميَّة في (المنتقى) عدَّة أحاديث في مشروعيَّة العتيرة، فقال الشوكاني في نيل الأوطار: قد اختُلف في الجمع بين الأحاديث المذكورة، والأحاديث الآتية القاضية بالمنع من الفرَع والعتيرة، فقيل: إنَّه يُجمع بينها بحمل هذه الأحاديث على النَّدب، وحمل الأحاديث الآتية على عدم الوجوب ذَكَر ذلك جماعة؛ منهم الشافعيُّ والبيهقي وغيرهما، فيكون المراد بقوله: ((لا فَرَع ولا عتيرة))؛ أي: لا فرع واجب، ولا عتيرة واجبة؛ اهـ.
 
وقال وكيع بن عديس: ((فلا أدعه))؛ أي: الذبح.
وجزم أبو عبيد بأنَّ العتيرة تستحبُّ.
 
وفى هذا تعقُّب على مَن قال: إنَّ ابن سيرين تفرَّد بذلك، ونقل الطحاويُّ عن ابن عون أنَّه كان يفعله.
 
وقال ابن القيم: (فإذا ثبتَ هذا فإنَّ المراد بالخبر نَفي كونها سنَّة، لا تَحريم فعلِها، ولا كراهته؛ فلو ذَبَح إنسان ذبيحةً في رجب، أو ذبح ولدَ النَّاقة لحاجته إلى ذلك أو للصَّدَقة به أو إطعامه، لم يكن ذلك مكروهًا)؛ (تهذيب السنن).
 
وهذا الكلام من ابن القيم رحمه الله كلام جامِع حاسِم للأمر، بل يشفي ويكفي.
 
وقال العلامة الألباني في (إرواء الغليل: 4 / ص 413):
(هذا وقد أفادَت هذه الأحاديث مشروعية الفرَع؛ وهو الذَّبح أول النتاج أن يكون لله تعالى، ومشروعية الذَّبح في رجب وغيره بدون تَمييز وتخصيص لرجَب على ما سواه من الأشهر، فلا تعارُض بينها وبين الحديث المتقدم ((لا فَرع ولا عتيرة))؛ لأنَّه إنَّما أبطل صلى الله عليه وسلم به الفَرع الذي كان أهل الجاهليَّة يذبحونه لأصنامهم، والعَتيرة وهى الذَّبيحة التي يخصُّون بها رجبًا، والله أعلم).
 
وأجازها شيخنا العلَّامة مقبل الوادعي، بشَرط أن تُذبح لله، ولا يُقصد بها الشِّرك؛ كما في كتابه العظيم (الجامع الصحيح).
 
وأجاز الشيخ العثيمين: الفرع، وكره العتيرة.
والذي يتلخَّص ويترجَّح: أنَّ في المسألة قولين: الكراهة، والاستحباب.
والراجح - والله أعلم - أنَّه لا تَعارُض بين النصوص في ذلك، كما تقدَّم.
 
ودعوى النَّسخ غير مسلَّمة، ولا يُقال بالنسخ هنا؛ لرواية الحارث بن عمرو - والذي فيه الأمر بالعتيرة - وكان ذلك في حجَّة الوداع، وهي بعد إسلام أبي هريرة كما هو معلوم.
 
وكذلك الأحاديث الدالَّة على النَّهي عن العتيرة ليس فيها بيان زمنِ وقوع النَّهي بالنسخ؛ فلا يُصار إليه.
 
ثمَّ إنه يمكن الجَمع بين القولين؛ بأن تُحمل أحاديث النَّهي على مَن قصد الذَّبحَ للصَّنم، أو الذبح لغير الله تعالى، والأحاديث الأخرى على الأصل والجواز، ومَن قرَأ أقرَّ.
 
والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
هذا ما تيسَّر تحريره في جِلستين من أصيل ومغرب يوم الاثنين 8/ 7/ 1436ه‍.

شارك الخبر

المرئيات-١