أرشيف المقالات

قيمة الوفاء

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
قيمة الوفاء
 
الوفاء من الأخلاق الراقية، والصفات السامية، جُبِلت عليه النفوسُ الأبية، والقلوب المَرْضية، الوفاء طبعُ العظماء، وروح الأصفياء، وطريق الأنقياء.
 
ما أجمَلَه من شيمة، وما أعظَمَها من صفة، وما أكرَمَها من سجية!
 
الوفاء خلقٌ عظيم من أهم الأخلاق التي حثَّ عليها ديننا الحنيف.
 
الوفاء، وحفظ المعروف، وردُّ الجميل، ومقابلة الإحسان بالإحسان، والمكافأة للمعروف بمثله أو أحسن منه والدعاء لصاحبه - من أخلاق الإسلام، ومن صفات المتقين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77].
 
وقال سبحانه: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يشكُرُ اللهَ من لا يشكُرُ الناسَ))؛ رواه أحمد والترمذي.
 
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صنَع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تَرَوا أنكم قد كافأتموه))؛ رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
 
الوفاء وصية الله لخلقه: ﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 152].
 
الوفاء من صفات ربِّ الأرض والسماء؛ يقول سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 111]، ويقول تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 9]، ويقول: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 6].
 
الوفاء طريق الأنبياء: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37].
﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [مريم: 54، 55].
 
وكان صلى الله عليه وسلم يلقَّب بالصادق الأمين قبل البعثة.
 
ورَدَ أن هرقلَ زعيم الروم لما سأل أبا سفيان عن محمد صلى الله عليه وسلم، قال له: إنه يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبيٍّ.
 
الوفاء خلق المؤمنين المتقين:
﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8].
 
الوفاء: حفظ للعهود، وصدق الوعود، وأداء للأمانات، واعتراف بالجميل، وصيانة للمودة والألفة والمحبة.
 
عن الأصمعي قال: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوُّقِه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه.
 
ويدخل في إطار الوفاء المطلوب من المسلم: الوفاءُ لماضي الأمة وتراثها وتاريخها، فلا يجوز للمسلم أن يتنكر لماضيه، فالذي ليس له ماضٍ لا مستقبلَ له، والوفاء لماضي الأمة وتراثها لا يعني تقديس هذا الماضي وتبرئته من كل العيوب، وإنما المقصود هنا ألا يفصل المرء بين يومه وأمسه، فالزمن حلقات متصلة، ومن أجل ذلك لا يجوز أن تكون هناك قطيعةٌ مع هذا الماضي؛ لأنه يشتمل على الجذور، وفصل جذور الشجرة عن ساقها يُميتُها.
 
إذًا الوفاء للماضي يعني الحفاظ على الهُويَّة، وتنمية الإيجابيات التي يشتمل عليها الماضي وتجنب السلبيات، إضافة إلى مراعاة متغيرات العصر، وهذا ما يطلِق عليه البعض الجمع بين الأصالة والمعاصرة.
 
الوفاء خلق لا يقدره إلا القليلون، ولقلَّة وجود ذلك في الناس قال تعالى: ﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ﴾ [الأعراف: 102].
 
الوفاء مع الله: أعظم الأدب هو الأدب مع الله، وأعظم الوفاء ما كان مع الله، والوفاء مع الله يكون بطاعته، وعبادته، وتوحيده.
 
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذَرتْ أن تحجَّ، فلم تحج حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: ((نعم، حجِّي عنها؛ أرأيتِ لو كان على أمِّك دَينٌ أكنتِ قاضيتِه؟ اقضوا الله؛ فالله أحقُّ بالوفاء)).
 
فمن أطاع ربَّه والتزم بشرعه، وامتثَل أمره واجتنَب نهيه ووقف عند حدوده...
كان من أهل الوفاء مع الله.
 
والذين على وعدهم محافظون، وعلى عهدهم صامدون، وعلى مبادئهم ثابتون - أكثر الناس إيمًانا ووفاء.
 
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].
 
ومن الوفاء مع الله الوفاءُ بالنذر، وهو ما يُلزِم به العبد نفسَه من طاعة الله من غير ما افترضه الله عليه، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن نذَر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيَه فلا يعصه)).
 
والوفاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم يكون باتباع سنته، والتخلق بأخلاقه، والاقتداء به، والدفاع عن دينه وعقيدته.
 
ولقد ضرب الصحابة الكرام أروعَ الأمثلة في حسن الوفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
وكذلك فعَل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع سراقة بن مالك رضي الله عنه؛ ففي حادثة الهجرة اتبع سراقة النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((عُدْ يا سراقة ولك سوارا كسرى))، وقُبِض النبي صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة عمر بعد فتح المدائن جاء سوارا كسرى لعمر، فنادى سراقة وألبسه إياهما وقال: هذا ما وعدك به رسولُ الله.
إنه الوفاء لما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم.
 
وعن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: ((يا حكيم، إن هذا المالَ خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفسٍ لم يُبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى)).
 
قال حكيم: قلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أسأل أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعو حكيمًا ليعطيَه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يَقبَله، فقال: يا معشر المسلمين، إني أعرض عليه حقَّه الذي قسَم الله له من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه، فلم يسأل حكيمٌ أحدًا من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي رحمه الله"؛ رواه البخاري.
 
والوفاء مع العلماء واحترامهم وتوقيرهم، والتواضع لهم، والدعاء لهم.
 
فهم أعلى الناس سموًّا ورفعة، قال سبحانه: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].
 
وهم أشد الناس لله حبًّا وخشية ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28].
 
لذلك من الحكمة والرشد توقيرُهم، والتعلمُ على أيديهم: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
 
الوفاء للوالدين فضل عظيم، وحق كبير على أبنائهم؛ إذ لا يخفى على أحد ما يبذله الوالدان من غالٍ ونفيس، وما يحملانه من نصب وتعب في سبيل نشأة أبنائهم وتربيتهم ورعايتهم.
 
فمن حقهم على الأبناء حسنُ الوفاء؛ بالطاعة والتواضع والإحسان.
 
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23].
 
وفاء الزوج لزوجته يكون باحترامها وتقديرها، والوفاء بما اشترطه على نفسه لها: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحقُّ الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)).
 
وفاء الزوج لزوجته يكون بأداء حقوقها، والإحسان إليها، وإكرامها، والاعتراف بفضلها ومكانتها.
 
وفاء الزوجة لزوجها يكون بطاعته واحترامه وتقديره، والوقوف إلى جانبه في عسره ويسره، وعدم نكران فضله وجحود عطائه، إذا أمَرَها أطاعته، وإذا نظر إليها سرَّتْه، وإذا غاب عنها حفظته.
 
فالأيام دول، فكم من غني أصبح فقيرًا! وكم من عزيز أصبح ذليلًا! وكم من قوي أصبح ضعيفًا! فالزوج قد تنزل به المحن والمصائب، فتتحول صحته إلى مرض، ويتحول غناه إلى فقر، وتتحول قوته إلى ضعف، وهنا يظهر معدن الزوجة الصالحة الوفية التي تقف إلى جوار زوجها في كل ضيق ومصيبة، تؤنسه وتواسيه، وتثبته، وتخفي عيوبه وتستر ذنوبه، ولا تنسى أيام الغنى والسَّعة، وأيام الصحة والقوة، وتردِّد دومًا قول الله جل وعلا: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ ﴾ [البقرة: 237].
 
وتنظر إلى زوجها نظرة رحمة وأدب، ونظرة حنان وتواضع، وهي تقول له: أبشِرْ أيها الزوج الحبيب! أنا لا أنسى أنك فعلت كذا وكذا، وقدمتَ لي كذا وكذا، ثم تذكِّره بقول ربها: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].
 
ما أشدَّ حاجة الناس إلى الوفاء، في زمن فشا فيه الجحود والنكران في قلوبِ كثيرٍ مِن البشَر، فلا الجميل عندَهم عاد يُذكَر، ولا المعروف لديهم يُحفَظ.
 
أفٍّ مِن الدُّنيا حين ينزف الوفاء في صدورِ الشرفاء! حين يئن الوفاء في رؤوس البسطاء!
 
ضاع الوفاء عند كثير من البشر وكأنَّهم ما خُلِقوا إلاَّ ليأخذوا، لا ليُعطوا، وما وُجدوا إلا ليَستغلُّوا، لا ليَمنحوا، وما علموا أنَّ قيمةَ الحياةِ الحقيقيَّة تكمُن في البذل والعطاء من المال والعلم والوقت والجاه.
 
﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 34].
 
الوفاء يجلب محبة الله: ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 76].
 
خير الناس يتمتعون بالوفاء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن خيار عباد الله الموفون المطيبون)).
 
الوفاء يضاعف الأجر والثواب: ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 10].
 
ومن صفات الأبرار أنهم ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الإنسان: 7].
 
اللهم وفِّقنا للوفاء، واجعلنا من أهل الوفاء، ﴿ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢