دور التجارة في انتشار الإسلام في إفريقيا
مدة
قراءة المادة :
18 دقائق
.
دور التجارة في انتشار الإسلام في إفريقيا ( جنوب الصحراء)
لعبت التجارة دورًا كبيرًا في انتشار الإسلام في بلاد السودان، ونقل مؤثراته بشكل عام، إذ نشط التجار المسلمون أكثر من ذي قبل في الوصول إلى بلاد السودان، ولاسيما بعد توحيد شبه الجزيرة العربية تحت راية الإسلام[1]، وما نتج عن ذلك من سيادة الأمن لطرق القوافل بين جنوب الجزيرة وشمالها، فعبروا إلى الساحل الشرقي لأفريقيا سالكين نفس الطرق التي سار عليها آباؤهم من قبل[2]، فقد كان تجار اليمن قد عرفوا طريقهم إلى الحبشة وشرق أفريقيا منذ وقت مبكر سابق على الإسلام بحثًا عن الذهب والعاج والرقيق والأخشاب، وغيرها من المواد الموجودة في تلك المنطقة [3].
وهنا لابد من القول أن دور التاجر المسلم القادم من المغرب قد بدى واضحًا في عملية نشر الإسلام في السودان الغربي كما في غيرها من المناطق الأفريقية، فبينما يصل التاجر بملابسه النظيفة المحتشمة يلاحظ الزنجي ذلك الرجُل متعجبًا وسائلًا عن سبب ارتداء تلك الملابس بينما هو قد أعتاد النظر إلى مواطنيه المرتدين لأوراق الشجر أو قلائد العظام التي لا تكاد تستر سوى عورته، وحينما يتقرب من ذلك التاجر ويسأله عن السبب فسوف يحصل على إجابة تكاد تكون درسًا في النظافة والاحتشام معًا، كما أن دور التاجر في نشر الإسلام يكبر كلما طالت مدة بقاءه هناك، فلابد له خلال تواجده من أن يتوضأ ويصلي خلال وجوده في سوق المدينة التي يتاجر فيها مما يساعد في إيصال صورة أولية للمتواجدين هناك عن الإسلام، كما أن الأفريقي مُعتاد على التعامل بالربا والغش بالبضاعة وعدم الوفاء بالعهود وهي أمور تعامل بعكسها التاجر المسلم فهو صادق في مواعيده لا يغش ولا يتعامل بالربا مما أسهم في تقرب الأفارقة منه ورغبتهم بالتعامل معه[4].
وكان أهم أثر اجتماعي نقلته التجارة متمثلًا في أخلاق التجار الذاهبين إلى بلاد السودان وكيفية سلامهم على الناس، وطريقة حلهم للمشاكل التي تواجههم هناك، من خلال صفحهم عن الإساءة التي يتعرضون لها، وكذلك قيامهم بإماطة الأذى عن الطريق أثناء سيرهم في المدينة، وتعاملهم بصدق مع التجار السودان، أو مع العامة الذين يقومون بالشراء منهم كما تأثر المجتمع السوداني بالتجار المسلمين في اجتناب المعاصي وعدم شرب الخمر، وعدم الكذب، والابتعاد عن الزنا، وعدم التعامل بالربا.
وكان لمنظر التاجر المسلم أثر كبير على السودان بشكل عام، وعلى من يعمل معهم بشكل خاص، إذ كانوا يتطلعون إلى ملابسه الطويلة المحتشمة، وإلى نظافتها وترتيبها، فيبدأون بتقليد ذلك التاجر في ملبسه، ثم نقلها إلى المجتمع ككُل، كما تأثروا بتصرفات التاجر اليومية من وضوء وصلاة وقراءة للقرآن [5]، فكانت كلمتي تاجر ومسلم، تعطيان نفس المعنى لدى السكان الأفارقة[6].
كما أن الالتزام الأخلاقي للتجار المسلمين قد جعلهم قريبين من الزعماء الافارقة ولاسيما أثناء استقبال أولئك الحكام للتجار القادمين من مدن الإسلام مكونين معهم علاقات صداقة [7]، تحولت بمرور الوقت إلى دعوة للإسلام، وأسفرت في أغلب الأحيان عن إسلام الملك، ومن ثمّ حاشيته، ليتبعهم الرعية [8].
وبحكم قرب الحبشة والساحل الشرقي لأفريقيا من الساحل العربي، فقد كان التواصل التجاري بين الطرفين كبيرًا، وقد أشار إلى ذلك المؤرخ اليعقوبي بقوله: ((ولم تزل العرب تأتي إليها (الحبشة) للتجارات، ولهم مدن عظام وساحلهم دهلك)) [9]، كما فتح ملك سفالة بلاده للتجار المسلمين، قائلًا لهم: ((أنتم السبب في صلاح ديني، وأنا اليوم فرح مسرور، لما مَنَ الله عليَ به، وعلى أهل دولتي من الإسلام…فجاء المسلمين إلينا فصرنا إخوانًا لهم، مسلمين مثلهم)) [10].
وكان من الطبيعي حينما يصل أولئك التجار إلى بلاد السودان أن يفكروا في مكان يسكنون فيه، فقاموا ببناء دورهم على الطراز العربي الإسلامي، لتتحول بعد ذلك إلى مدن إسلامية ذات صبغة عربية، فأقيمت المنازل الواسعة، والمساجد العامرة في أغلب المدن، لاسيما الساحلية منها والتي تحمل الطابع العربي كعيذاب[11]، وسواكن[12]، ومنبسا، وباتا، ولامو، وغيرها من المدن[13]، وكانت المدن المقامة قبل ذلك، صغيرة لا تعدو أن تكون مخازن للمواد التجارية، ويطلق عليها أسم بنادر[14]،ونُسب كل منها إلى شخصية عربية بارزة كبندر قاسم، وبندر زيادة، وكانت تلك الشخصيات إما دينية أو تجارية[15].
وكان التاجر في بلاد السودان وبعد استقراره يبدأ بالبحث عن زوجة سودانية، مما يسهم بعد ذلك في تقوية الروابط الأسرية بين الطرفين، ويساعد في نقل عادات وتقاليد التاجر إلى أسرته الجديدة، من مأكل ومشرب وملبس وغيرها، فبدأت الزوجة بالتعلم من زوجها التاجر الكثير من العادات والتقاليد، لتنقلها بدورها إلى أطفالها فيما بعد، كما أن بعض أولئك التجار قد جلبوا معهم عوائلهم من اليمن والحجاز والمغرب الإسلامي ومصر، لتختلط مع السكان الأصليين للمنطقة[16].
كما اتصل العرب بالبجة والنوبة اتصالًا وثيقًا في حوالي القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي من خلال عملهم بالتجارة والبحث عن الذهب، واستقرت جماعة منهم هناك، وبنوا دورًا لسكنهم ومساجد لإقامة الصلاة، مما ساعد على دخول السكان السودان في الإسلام وتطبعهم بطباع العرب المسلمين [17]، ولاسيما بعد وصول أعداد من عرب جهينة وبلى، بعد الفتح العربي لمصر مكونين ممالك وإمارات وسلطنات إسلامية من عيذاب شمالًا إلى سفالة جنوبًا، فأثروا في السكان بنظافتهم وأمانتهم وسلوكهم الشخصي[18]، وتعاملوا مع السكان بأسلوب حسن، ونشروا عادات وتقاليد المسلمين، على عكس ما نقل كوبلاند [19]، إذ أشار إلى استخدام السلاح من قبل التجار لاسترقاق الأفارقة وأنهم لم يستخدموا الهدايا والخمر لاسترضائهم.
ومن الواضح أن الأمرين اللذين أشار إليهما الكاتب يدلان على افتراء كبير على التجار المسلمين، وهي بالضبط تعكس تصرفات البرتغاليين وغيرهم من الغزاة مع السكان الأفارقة.
فقد كان التاجر المسلم مثالًا للأخلاق الحسنة، صادقًا في تعامله، محّرمًا للمنكرات، وقد نقل بهذه التصرفات صورة حسنة عن الإسلام والمسلمين[20].
وكان للتجار القادمين من المغرب الإسلامي إلى دولة كانم والسودان الأوسط بشكل عام دور كبير في نقل الإسلام بعد تجمعهم في مدينة زويلة [21]، كما شكلوا بمرور الزمن جاليات إسلامية عملت على ربط المنطقة بمدن المغرب الإسلامي، من خلال تواجدهم في المدن الواقعة على حدود بلاد السودان كمدينة أودغست، التي مثلت نقطة التقاء بين التجار من الطرفين، ولاسيما بعد أن استقر فيها تجار من المغرب والعراق [22]، ساعدوا على بروز معالم إسلامية في المدينة كالمساجد، ومراكز التعليم العربية في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي[23].
كما لعبت مدينة سجلماسة [24]، الدور نفسه الذي لعبته اودغست، لكونها حلقة وصل بين بلاد السودان، وبلاد المغرب التي مر من خلالها التجار المسلمين إلى المنطقة[25].
ومن الجدير بالذكر أن نشاط التجار المسلمين قد أمتد إلى داخل بلاد السودان ليصل إلى السودان الغربي، فتواجدوا في غانة ومالي ومن ثمّ السنغاي[26]، وكان للولاة المسلمين في بلاد المغرب مساهمة جادة في تنظيم التجارة من خلال تأمين تلك الطُرق، وتوفير المياه للمارين فيها بعد حفر عدة آبار[27].
وكان التجار السجلماسيين قد تزوجوا من النساء السودانيات خلال تواجدهم في بلاد السودان، وكانت مدة الاغتراب التي يقضيها التجار بعيدين عن بلادهم تضطرهم للزواج، لأن الدين الإسلامي يحتم عليهم الالتزام بالأخلاق الحميدة، والتي دعت الكثيرين منهم في حالة عدم الزواج من امرأة حرة إلى القيام بعتق إحدى الإماء، ومن ثمّ الزواج منها، كما أن المرأة المغربية العاملة في التجارة كانت تتزوج من عبدها بعد أن تعتقه، والذي غالبًا ما يكون قد جاء من بلاد السودان[28].
لقد تمتع التجار الداخلين إلى بلاد السودان بمكانة كبيرة لدى حكام وسلاطين بلاد السودان، بسبب ما حملوه من أخلاق كريمة وتسامح، مما دفع بأولئك الحكام إلى اختيار مساعدين ومستشارين لهم من بينهم[29]، معتمدين عليهم في تسيير أمور البلاد، ومستفيدين من خبرتهم في التعاملات التجارية، كما تأثروا بأسلوب حياة التجار المسلمين وبثقافتهم الإسلامية[30].
وكان لوصول الجاليات التجارية المصرية إلى دولة مالي، ومن ثمّ السنغاي [31]، أو الداخلة عبر الصحراء من المغرب الإسلامي، أثر آخر لكونها قد جاءت إلى المنطقة على شكل عوائل بأكملها، كعائلة المؤرخ المقري[32].والتي ما لبثت أن نقلت إلى بلاد السودان الكثير من تصرفات التجار المسلمين وطُرق بيعهم وشرائهم وحسب تعاليم الدين الإسلامي، من خلال الشركة التي أنشأتها، والتي تكفلت بإرسال القوافل التجارية إلى بلاد السودان، لينتقل مع تلك القوافل الكثير من التجار حفظة القرآن الكريم والمتفقهين في الشريعة الإسلامية، والذين كان لهم دور كبير في نقل الحضارة الإسلامية فضلًا عن الدين للسكان الأفارقة بكل تأكيد [33].
كما لعب التجار المسلمين من المغاربة دورًا واضحًا في إيصال المؤثرات الإسلامية إلى بلاد السودان، فقد تواجدوا في اغلب مدن وإمبراطوريات السودان وصولًا إلى مدن كوكيا[34]، وغاو[35]،في إمبراطورية السنغاي[36] التي تم تقسيم التجار فيها إلى تجار محليين منتمين إلى فئة العامة، وفئة التجار الأجانب القادمين من خارج بلاد السودان، والحاملين معهم كل جديد على المنطقة، مما ساعد على تقبل السكان لتعاليم الإسلام، واستقبال كافة مؤثراته طوعًا دون إكراه [37].
والتجارة عبر الصحراء هي السبيل الوحيد الذي تسرب عبره الإسلام إلى جنوب الصحراء، فكان التجار خلال عملهم يعرفون السودان بالإسلام بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مما اسهم في انتشار الإسلام على الخط التجاري الرابط بين غانة وصولًا الى السنغال، فكان ذلك الانتشار سلميًا بعيدًا عن أي نوع من انواع العنف والقتال ولم تستخدم خلاله أي قوة عسكرية تحمي التجار الذي ينتمي معظمهم إلى قبيلة صنهاجة.
[1] ابن هشام، السيرة النبوية، ق2، ص540؛ أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، فتوح البلدان (بيروت: 1978)، ص225
[2] اليعقوبي، البلدان، ص89؛ المسعودي، مروج الذهب:2 /18.
[3] Coupland,East Africa,P.16.
[4] توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام، (القاهرة:1970)، ص281-282.
[5] أرنولد، الدعوة ص391 ؛ نوري، تاريخ الإسلام، ص128.
[6] Trimingham,The Influnce Of Islam Upon Africa(London:1968),P.39.
[7] Trimingham,The Influnce,P.39.
[8] حسن أحمد محمود، الإسلام والثقافة العربية في أفريقيا، (القاهرة:1958):1 /394.
[9] انظر: تاريخ اليعقوبي:2/218.
[10] الزهري، كتاب الجغرافية، ص124؛ جمال زكريا قاسم، استقرار العرب في شرق أفريقيا، بحث منشور في مجلة آداب عين شمس، مج10، ص291.
[11] عيذاب: بالفتح ثم السكون وذال معجمة، بلدة على ضفاف البحر الأحمر وهي مرسى المراكب التي تقدم من عدن إلى الصعيد.
انظر: الحموي، معجم البلدان:4 /171.
[12] سواكن: بلد مشهور على ساحل البحر قرب عيذاب، وهي مدينة عامرة في بلاد البجة ومنها يخرج رقيقهم.
انظر: الحموي، معجم البلدان: 3 /276.
[13] قاسم، الروابط، ص14.
[14] بنادر: وهو المكان الذي يتجمع فيه التجار وخاصة في المناطق التي يوجد فيها معادن، وأحدهم بندر ويقال رجُل بندري ومبندر ومتبندر وهو كثير المال.
انظر: محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي، لسان العرب (بيروت: د/ت): 4 /81.
[15] عبد الجليل، تاريخ وحضارات، ص193.
[16] قداح، أفريقيا الغربية، ص126.
[17] ابن خلدون، العبر: 5/429؛ حسن، انتشار الإسلام، ص142.
[18] محمود، الإسلام، ص54؛ محمد محمد أمين، العرب والدعوة الإسلامية في الصومال في العصور الوسطى، بحث منشور في مجلة الدارة، ع2، س10، ( سبتمبر: 1984 )، ص26.
[19] See: Copland, East Africa,P.18.
[20] قاسم، استقرار العرب، ص12؛ عبد الجليل، تاريخ وحضارات، ص24.
[21] الشيخلي، الوجود العربي، ص123.
[22] أبن حوقل، صورة الأرض، ص99؛ مجهول، الاستبصار، ص216.
[23] البكري، المُغرب، ص158.
[24] سجلماسة: مدينة تقع جنوب المغرب في طريق بلاد السودان، بينها وبين فاس عشرة أيام (480كم).
انظر: الحموي، معجم البلدان:3/192.وبما إن اليوم يساوي ثمان فراسخ.
انظر: أبو الفداء، تقويم البلدان، ص79.
والفرسخ يساوي 6كم.
انظر: فالتر هنتس، المكاييل والأوزان الإسلامية وما يعادلها بالنظام المتري، (عمان:1970)، ص75.
إذن اليوم يساوي 48كم.
[25] الحرير، العلاقات الاقتصادية، ص84.
[26] حسن، انتشار الإسلام، ص11.
[27] البكري، المُغرب، ص156-157.
[28] بوخالفة نور الهدى، دولة بني واسول في سجلماسة " علاقاتها ودورها الحضاري في المغرب الوسيط "، رسالة في دبلوم الدراسات المعمقة مقدمة إلى معهد العلوم الاجتماعية في جامعة وهران، (الجزائر:1976)، ص273.
[29] مهدي ادامو: مالي والتوسع الثاني للماندنغ، بحث منشور في كتاب تاريخ أفريقيا العام، مج4، ص134.
[30] الشيخ الأمين عوض الله، تجارة القوافل بين المغرب والسودان الغربي وأثارها الحضارية حتى القرن السادس عشر الميلادي، بحث منشور في كتاب تجارة القوافل ودورها الحضاري حتى نهاية القرن التاسع عشر، (بغداد:1984)، ص95.
[31] محمد محمد أمين، علاقات دولتي مالي وسنغاي بمصر في عصر سلاطين المماليك (1250-1517)، بحث منشور في مجلة الدراسات الأفريقية،ع4، 1975، ص296.
[32] طرخان، إمبراطورية غانة، ص83.
[33] محمود، الإسلام والثقافة، ص54.
[34] كوكيا: عاصمة مملكة السنغاي، تقع في جزيرة بنتا في النيجر، وعلى بعد (60ميلًا)120كم جنوبي الغاو.
انظر: زكي، تاريخ الدول، ص133؛ دائرة المعارف الإسلامية (مادة سنغاي): 2 /265.
[35] غاو: مدينة تقع على الضفة اليسرى لنهر النيجر وتلتقي بوادي تلمس الذي يبدأ بقلب الصحراء وهي تشابه مدينة كومبي صالح، إذ تنقسم إلى قسمين الأول يعيش فيه المسلمون، والثاني للوثنيين.
انظر: زكي، تاريخ الدول، ص134؛ مهدي ادامو، مالي والتوسع، ص133.
[36] دافيد سون، إفريقيا، ص49؛ عوض الله، تجارة القوافل، ص69.
[37] حسن، انتشار الإسلام، ص43-44؛ نوري، تاريخ، ص128.