أرشيف المقالات

هل تنضم إلى الصفوة؟

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
هل تنضم إلى الصفوة؟
 
قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: 68].

قال ابن القيِّم: كما خلقَهم وحْده سبحانه، اختار منهم مَن تاب وآمَن وعمِل صالحًا، فكانوا صفوتَه مِن عباده، وخِيرتَه مِن خَلْقه، وكان هذا الاختيار راجعًا إلى حِكمته وعِلمه سبحانه لِمَن هو أهلٌ له.

ومن هذا الاختيار اختيارُه سبحانه مَن شاء مِن عباده للهداية ليكون مِن صفوة خلْقه، وخيار عباده، فينضمَّ إلى قافلة المصطفَين الأخيار؛ قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 125].

 
فالهداية هي محْض فضْل الله عزَّ وجلَّ وَجُوده، وهو الذي يَهَبُها مَن شاء مِن عباده، وصدَق حين قال: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [القصص: 68].

 
وممَّا يؤكِّد هذه الحقيقةَ ويُجلِّيها: هداية الله لأناسٍ هم في ظاهِر الحياة أبعدُ ما يكون الواحد منهم عن الهِداية، ومع ذلك يمنُّ الله عليهم، فينتَقِلوا مِن الضلالة إلى الهُدَى، ومِن الشقاء إلى السَّعادة، ومِن البُعْد إلى القُرْب، وهاكم هذه القصصَ:
1- إيمان السحرة:
قال تعالى في سورة الشعراء: ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 41 - 51].

 
وقال في سورة طه: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ [طه: 72 - 76].

 
قال عبد الله بن عبَّاس حين قالوا: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ [الأعراف: 126]، كانوا في أوَّل النهار سحرةً، وفي آخر النهار شُهداء.

 
يا لله العَجَب! كيف سِيقَت إليهم الهداية، وهم أبعدُ ما يكونون عنها؟! يا لله العجب! قلوب أُشرِبَت السحر والكُفر والظلمَ، كيف لاحَ لها بريقُ الإيمان في غابة الكُفْر المخيفة؟! إنها مِنَّة اللهِ وفضله، اللهم اجعلْنا مِن عبادك المصطفَيْنَ الأخيار.

 
2- إيمان امرأة فرعون:
قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [التحريم: 11].

 
قال الإمام البغوي رحمه الله: قال المفسِّرون: لَمَّا غَلَب موسى السحرةَ، آمنتِ امرأةُ فرعون، ولما تبيَّن لفرعون إسلامُها أوْتدَ يديها ورجليها بأربعة أوتاد، وألْقاها في الشمس، وعن سلمانَ قال: كانتِ امرأة فرعون تُعَذَّب في الشمس، فإذا انْصرَف عنها أظلتْها الملائكة بأجنحتها، وكانتْ ترى بيتَها في الجنَّة.

 
وفي القصَّة: أنَّ فرعون أمَر بصخرةٍ عظيمة لتُلقَى عليها، فلما أتَوْها بالصخْرة، قالت: ربِّ ابن لي عندَك بيتًا في الجَنَّة، فأبصرتْ بيتها في الجَنَّة مِن دُرَّة بيضاء، وانتزع رُوحها فألقيَت الصخرة على جسَدٍ لا رُوح فيه، ولم تجد ألَمًا.

قال ابن كثير رحمه الله: قال العلماء: اختارتِ الجارَ قبْل الدار.

فيا لله العجَب! كيف وفِّقَتْ للهداية، واختارتْ أن تفارِق المُلك والسلطان، والقصور والدُّور، والزينة والحُلي، والخدمة والرعاية؛ لترضَى بالصلب والأوتاد، بدلًا عن ذلك، ولكنَّها نسائمُ الإيمان، ولذَّة الهداية، وأُنْس الصلاح أَنْساها ذلك كلَّه، فأصْبحَتْ ممن كمُل من النساء، وانضمَّتْ إلى قافلة المصطفَيْنَ الأخيار، اللهمَّ اجعلنا مِن عبادك المصطفين الأخيار.


 
3- ماشطةُ بنتِ فرعون:
عن ابن عبَّاس، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لما كانت الليلةُ التي أُسْري بي فيها، أتتْ عليَّ رائحةٌ طيبة، فقلتُ: يا جبريل، ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه رائحةُ ماشطةِ ابنةِ فرعون وأولادها، قال: قلتُ: وما شأنها؟ قال: بينا هي تمشط ابنةَ فرعون ذاتَ يومٍ إذ سَقَطتِ المِدرى مِن يديها، فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنةُ فرعون: أبي؟ قالت: لا، ولكن ربِّي وربُّ أبيكِ الله، قالت: أُخبره بذلك، قالت: نعم، فأخبرتْه فدَعاها، فقال: يا فلانةُ، وإنَّ لك ربًّا غيري؟! قالت: نعم، ربِّي وربُّك الله، فأمَر ببقرةٍ مِن نحاس فأُحميَت، ثم أمَر بها أنْ تُلقى هي وأولادها فيها، قالت له: إنَّ لي إليك حاجة، قال: وما حاجتُك؟ قالت: أُحِبُّ أن تجمع عِظامي وعظام ولدي في ثوْبٍ واحد، وتدفننا، قال: ذلك لك علينا مِن الحقِّ.
قال: فأمَر بأولادها فأُلقوا بيْن يديها واحدًا واحدًا إلى أنِ انتهى ذلك إلى صبيٍّ لها مرْضَع، وكأنَّها تقاعسَت مِن أجْله، قال: يا أُمَّهْ، اقتحمي فإنَّ عذاب الدنيا أهونُ مِن عذاب الآخرة، فاقتحمَتْ))، قال: قال ابن عبَّاس: (تكلَّم أربعة صِغار: عيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحِب جُرَيج، وشاهد يوسف، وابن ماشطةِ ابنة فرعون)؛ رواه الإمام أحمد، وحسَّنه شُعيب الأرنؤوط.

 
فيا لله العجب! كيف أطاقتْ أن تُبصر بأمِّ عينها فلذاتِ أكبادها يُحرقون ويُعذَّبون؟! كيف أطاقتْ أن تسمع صراخَهم، حتى يُفارقوا الحياةَ؟! يا لله ما أعظمَ إيمانَها! ولكن يكفيها أن أبقَى اللهُ ذِكْرها؛ لتكون نموذجًا للمصطفَيْنَ الأخيار، اللهمَّ اجعلنا مِن عبادك المصطفين الأخيار.


 
4- قاتل المائة:
روى أبو سعيد الخدري؛ أنَّ نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((كان فيمَن كان قبلَكم رجُلٌ قتَل تسعةً وتسعين نفْسًا، فسأل عن أعلمِ أهل الأرض، فدُلَّ على راهِب فأتاه، فقال: إنَّه قَتل تسعةً وتسعين نفْسًا، فهل له مِن توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمَّل به مائة، ثم سأل عن أعلمِ أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالِم، فقال: إنَّه قَتل مائةَ نفْس، فهل له مِن توبة؟ فقال: نعم، ومَن يحول بينه وبيْن التوبة؟! انطلِقْ إلى أرْض كذا وكذا، فإنَّ بها أناسًا يعبدون الله، فاعبدِ الله معهم، ولا ترجع إلى أرْضك، فإنَّها أرْض سوء، فانطلَق حتى إذا نصَفَ الطريقَ أتاه الموت، فاختصمتْ فيه ملائكةُ الرحمة وملائكةُ العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مُقبِلًا بقَلْبه إلى الله، وقالت ملائكةُ العذاب: إنَّه لم يعملْ خيرًا قط، فأتاهم مَلَكٌ في صورة آدميٍّ، فجعلوه بيْنهم، فقال: قِيسوا ما بيْن الأرْضَيْن، فإلى أيَّتِهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدْنى إلى الأرْض التي أراد، فقبضتْه ملائكةُ الرحمة))؛ رواه مسلم، وزاد في رواية البخاري: قال قتادة: قال الحسن: ((فأدْرَكه الموتُ، فنأى بصدْره نحوَها، فاختصمَتْ فيه ملائكةُ الرحمة وملائكةُ العذاب، فأوْحى الله إلى هذه أن تقرَّبي، وأوحى الله إلى هذه أن تباعَدِي، وقال: قِيسوا ما بيْنهما، فوُجِد إلى هذه أقرَب بشبرٍ، فغفر له)).

 
5- إسلام عمر:
عن أمِّ عبد الله بنت أبي حَثْمَة قالت: والله إنَّا لنترحَّل إلى أرْض الحبشة، وقد ذهَب عامر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمرُ، فوقف عليَّ وهو على شرْكه، فقالت: وكنَّا نَلقَى منه أذًى لنا، وشدَّة علينا، قالت: فقال: إنَّه الانطلاق يا أمَّ عبد الله، قلتُ: نعم والله، لنخرجنَّ في أرْض مِن أرض الله؛ إذْ آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعَلَ الله لنا مخرجًا، قالت: فقال: صَحِبكم الله، ورأيتُ له رِقَّة لم أكُنْ أراها، ثم انصرَف، وقد أحْزنه - فيما أرى - خروجُنا، قالت: فجاء عامرٌ بحاجتنا تلك، فقلتُ له: يا أبا عبد الله، لو رأيتَ عمَر آنفًا ورقَّته وحُزْنه علينا، قال: أَطَمِعْتِ في إسلامه؟ قالت: قلتُ: نعَمْ، قال: لا يُسلم الذي رأيتِ حتى يُسلمَ حِمارُ الخطَّاب، قالت: يأسًا منه لِمَا كان يرَى مِن غِلظته وقسوته على الإسلام.

 
6- توبة شاب عن اللهو واللعب:
عن ثابتٍ البُناني قال: كان صِلة بن أشيمَ يخرج إلى الجبَّان فيتعبَّد فيها، فكان يمرُّ على شباب يلهون ويلعبون، قال: فيقول لهم: أخبروني عن قومٍ أرادوا سفرًا فحادوا النهارَ عن الطريق وناموا اللَّيْل، متى يقطعون سفرَهم؟! قال: فكان كذلك يمرُّ بهم ويعِظُهم، قال: فمرَّ بهم ذات يوم، فقال لهم هذه المقالة، فقال شابٌّ منهم: يا قوم، إنَّه والله ما يعني بهذا غيرَنا، نحن بالنهار نلغو، وبالليل ننام، ثم اتَّبع صِلة، فلم يزلْ يختلف معه إلى الجبَّان ويتعبَّد معه حتى مات - رحمهما الله.

 
7- توبة زاذان الكندي:
رُوِي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ أنَّه مرَّ ذات يوم في موضِعٍ مِن نواحي الكوفة، فإذا فِتيان فُسَّاق قدِ اجتمعوا يشربون، وفيهم مُغَنٍّ، يقال له: زاذان، يضرب ويغنِّي، وكان له صوْت حسَن.

فلمَّا سمِع ذلك عبدُ الله، قال: ما أحسنَ هذا الصوت! لو كان بقراءة كتاب الله، وجعَل الرِّداءَ على رأسه ومضى.

فسَمِع زاذان قوله، فقال: مَن كان هذا؟ قالوا: عبد الله بن مسعود، صاحِب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: وأيَّ شيء قال؟ قالوا: إنَّه قال: ما أحْسنَ هذا الصوت! لو كان بقراءة كتاب الله تعالى.

فقام وضرَب بالعود على الأرْض فكسَرَه، ثم أسْرع فأدركه، وجعَل المِنديل في عنقِ نفْسه، وجعَل يبكي بيْن يدي عبد الله بن مسعود، فاعتَنقه عبدُ الله بن مسعود، وجعَل يبكي كل واحد منهما.

ثم قال عبد الله: كيف لا أحبُّ مَن قد أحبَّه الله عزَّ وجلَّ، فتاب إلى الله عزَّ وجلَّ مِن ذُنوبه.

ولازم عبدَ الله بن مسعود حتى تعلَّم القرآن، وأخذ حظًّا مِن العِلم، حتى صار إمامًا في العِلم، ورَوى عن عبدِ الله بن مسعود، وسلمانَ، وغيرهما.

 
8- توبة شاب بعْد سماع شريط:
صاحبُنا هذا هو واحدٌ مِن هؤلاء الغافلين، درَس في أمريكا، وعاد بقلْب مظلِم، قد عصفتْ فيه رِياحُ الأهواء والشُّبهات، فأطفأتْ سراجَ الإيمان في قلْبه، واقتلعتْ ما فيه مِن جذور الخير والصلاح والهُدى، إلى أنْ جاء مَن بذر فيه بذرةً طيِّبة، أنبتت نباتًا طيبًا بإذن الله.

يقول هذا التائب: لم أكُن أُطيق الصلاة، وحينما أسْمع المؤذِّنَ وهو ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، أَخرُج بسيَّارتي هائمًا على وجهي إلى غيرِ وجهةٍ، حتى ينتهيَ وقت الصلاة، ثم أعود إلى المنزل، تمامًا كالشيطان عندَما يسمع النِّداء للصلاة.

 
وفي يوم من الأيَّام خرجتُ كعادتي أَهيم على وجهي، وعند إحْدى الإشارات المروريَّة، وقف بجانبي شابٌّ بهيُّ الطلعة - وكانت أصواتُ الموسيقا الصاخبة تنبعثُ مِن سيَّارتي بشكل مُلفِت - نظر إليَّ مبتسمًا ثم سلَّم عليَّ، وقال: ما أجملَ هذه الأغنية، هل يُمكنني استعارةُ هذا الشريط؟

عجبتُ لطلبه، ولكنْ؛ نظرًا لإعجابه بالموسيقا التي أسمعها، أخرجتُ له الشريط، وقذفتُ به إليه، عندَ ذلك ناولني شريطًا آخَر، بدلًا عنه، وقال: استمعْ لهذا الشريط.


الشريط كان للشيخ ناصِر العمر، بعنوان: (السَّعادة بيْن الوهْم والحقيقة)، لم أسمع باسم هذا الشيخ مِن قبلُ، قلتُ في نفسي: لعلَّه أحدُ الفنَّانين المغمورين، كدتُ أُلقي بالشريط مِن النافذة، ولكن؛ نظرًا لأنِّي قد مللتُ استماعَ الأشرطة التي معي في السيَّارة؛ قلتُ: لأستمعْ إلى هذا الشريط فلعلَّه يعجبني.

وبدأ الشيخ يتكلَّم، فحمد الله وأثْنَى عليه، ثم ثـنَّى بالصلاة على رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، أنصتُّ قليلًا، فإذا بالشيخ يروي قصصًا عن أشخاصٍ كنتُ أعتقد أنَّهم في قِمَّة السعادة، فإذا هو يُثبِت بالأدلَّة والبراهين أنَّهم في غاية التعاسَة.

كنتُ مشدودًا لسماع هذه القصص، وقد انتصَف الشريط، فحار في ذِهني سؤالٌ لم أجد له جوابًا: ما الطريق إذًا إلى السَّعادة الحق؟

فإذا بالجواب يأتي جليًّا مِن الشيخ في النِّصف الثاني مِن الشريط، لا أستطيع اختصارَ ما قاله الشيخ جزاه الله خيرًا، فبإمكانكم الرجوعُ إلى الشريط، والاستماع إليه مباشرةً.

 
ومنذ ذلك اليوم بدأتُ بالبَحْث عن أشرطة الشيخ ناصر العمر، وأذكُر أنَّني في ذلك الأسبوع استمعتُ إلى أكثرَ مِن عشرة مِن محاضرات الشيخ ودروسه، وأثناء تردُّدي على محلات التسجيلات الإسلاميَّة سمعتُ عن المشايخ، والدُّعـاة الفضلاء الآخرين، وهم كثيرٌ والحمد لله، لا أستطيع حصْر أسمائهم.
فظللتُ أتابع الجديدَ للكثير منهم، وأحرِص على حضور محاضراتهم ودروسهم، كل ذلك ولم أكُنْ قدِ التزمتُ بعدُ التزامًا حقيقيًّا، وبعد حوالي أربعة أشهر مِن المتابعة الحثيثة لهذه الأشرطة؛ هدَاني الله عزَّ وجلَّ.
 
تأمُّلات في القصص السابقة:
1.
إنَّ مَنْ مَنَّ الله عليه بالهِداية عليه أن يُكثِر الحمد والشكر لله عزَّ وجلَّ إذ هداه للاستقامة، فذلك هو محضُ فضْل الله عزَّ وجلَّ ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: 17]، ولذلك على المهتدِي ألَّا يغترَّ، ويعجب بالهداية، بل يسعَى إلى زيادتها وتنْمِيَتها.
 
2.
على العبْد أن يتلمَّس أسبابَ الهداية، ويُفتِّش عنها، فمِن رحمة الله تعالى أنْ جعَل للهداية أسبابًا، مَن حَرَص على تحصيلها، وفَّقه الله لها، ومنها:
1- الدعاء.
2- القرآن.
3- اتباع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، والاقتداء به؛ ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52].
4- الإكثار مِن العبادات.
5- الرفقة الصالحة.
6- حضور مجالس العِلم، والاستماع إليها.
 
3.
الخوْف على الهِداية مِن أن تُسلَب مِن الإنسان، فقد كان الرُّسل والأنبياء والصالحون يخافون أشدَّ الخوف أن يُسلَب منهم الإيمان وهم لا يشعرون؛ قال تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8]، وكان مِن دعاء النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يا مقلِّبَ القلوب، ثبِّت قلبي على دِينك))، (يا وليَّ الإسلام وأهله، ثبِّتْنِي عليه حتى ألْقاك)) .
 
4.
على الدُّعاة والمصْلِحين ألَّا يَيأسوا مِن هداية أحدٍ مِن الناس، مهمَا كان ضلالُه وبُعْده، فهذا موسى عليه السلام لم يَيأسْ مِن السَّحرة، بل وعظَهم وذكَّرهم، وربَّما كانت هدايتُهم بسبب هذه الموعظة: ﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ [طه: 61، 62].
 
وهذا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَيْأسْ مِن عمرَ بن الخطَّاب رغمَ كفْره، وعظيمِ أذيَّته للمؤمنين، بل قال: ((اللهمَّ أعِزَّ الإسلام بأحبِّ العُمَرين إليك)).
 
اللهمَّ اجعلنا مِن عبادك المصطفَيْنَ الأخيار، اللهمَّ توفَّنا مسلمين، وألْحِقْنا بالصالحين، اللهمَّ أدْخِلْنا برحمتك في عبادك الصالحين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣